التنوير الديني والماركسية عند محمود محمد طه .( الحلقة الثانية )

فريد العليبي
2024 / 6 / 9

يقدم محمود محمد طه نفسه باعتباره داعية سلام ، مقابل الماركسية العنيفة ، فهو ينبذ العنف أما الشيوعيين فإنهم ليسوا غير بقايا الثورة الفرنسية الدموية ، التي تفشى فيها الإرهاب وسقط خلالها الكثير من الضحايا ، لذلك فإنهم لا يرون تغييرا سياسيا واجتماعيا واقتصاديا دون عنف كما يقول، ويرى من ثمة في ماركس " أكبر المفلسفين لثورات العنف" 19 و " ورفض التطور الوئيد ، الذي يدعو إلى التغيير عن طريق القوانين" 20، غير أنه لا ينفي ضرورة التسلح بالقوة التي تختلف جوهريا عن العنف بحسب رأيه . واذا كانت الحروب تجري بين الأقوياء فإن الثورات يقوم بها الضعفاء ، فالعنف عرضي في حياة البشر وليس أصلا ، وكلما تطورت تلك الحياة من التوحش الى التأنس وابتعد الانسان عن الغابة ليعيش في المدينة ، كلما ضعف العنف وتلاشى ، فقد كان مهيمنا قديما قبل خلاص الانسان من الكثير من مظاهره ، وما كان يحل من مشكلات سابقا بالعنف يحل الآن سلما ، وهكذا دواليك في المستقبل ، حتى يتلاشى نهائيا ، فـ " العنف ليس أصلاً في العلاقات الإنسانية ، وإنما هو مرحلة يتخلص منها الإنسان كلما بعد عهده بعهد الغابة ، و كلما نزل منازل القرب من عهد المدينة ." 21
غير أنه ينسب الى ماركس كلاما لم يقله ، وهو ما يذكرنا بما لاحظناه آنفا ، مثل " أن تغييراً اجتماعياً جوهرياً بغير طريق القوة والعنف لا يمكن أن يتم" 22، كما أن برهنته على التحول السلمي ضعيفة ، فهو يسوق مثال ثورة أكتوبر السودانية 23، التي يرى أنها أنجزت مهمتها دون عنف " إذ قد تم التغيير بالقوة بغير العنف .. وهذا ، في حد ذاته عمل عظيم و جليل... فنحن في ثورة أكتوبر كنا قويين لكن ما كنا عنيفين .. القوة جاية من وحدة صفنا " 24، غير أن تلك الثورة لم تحقق التغيير الذي يتحدث عنه ، كما أن بعض من يستشهدون من بعده على صحة فكرته بـ" ثورات " الربيع العربي لا يجدون البرهان الكافي على ما يقولون ، فمن الواضح أنها لم تكن سلمية أولا ، وهى ثانيا لم تحقق غايتها ، وأن فكرة انتصار النـــزعة السلمية وفشل النزعة العُنفية ، هي من قبيل المزاعم الأيديولوجية وما تبع الانتفاضة السودانية الأخيرة من عنف عارم شاهد آخر على حدود النزعة السلمية في تغيير المجتمعات .
وبالعودة الى الماركسية فإنها لا ترى في العنف أمرا ثابتا ، معمولا به في كل وقت ، فالشيوعيون ليسوا هواة عنف كما يقول أنجلس ، ويحصل أن يتم التغيير الاجتماعي دون عنف اذا كانت موازين القوى في غير صالح البرجوازية .
وفضلا عن مسألتي خلود الماركسية والعنف سالفتي الذكر، يتساءل محمود محمد طه عن حقيقة ادراك الماركسيين لقوانين التطور الاجتماعي بالقول : " هل يفهمون حقا قوانين التطور الاجتماعي؟" 25ويتركز نقده على قول ماركس بارتباط الوعى الاجتماعي بالوجود الاجتماعي، فمن يقول قوله بحسب رأيه لا يفهم قوانين التطور الاجتماعي ، سنده في ذلك الآية القرآنية القائلة : يا أيها الإنسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه ، فالإنسان يقتدى بالله مقربا صفاته بصفاته ، ولا نعلم هنا ما الرابط بين هذا وذاك ، حتى أننا نراه يترك الأمر دون إيضاح قبل ملاحظته أن الانسان يمر من الحرية المحدودة الى الحرية المطلقة ، وذاك يتطلب الديمقراطية الاقتصادية والديمقراطية السياسية .
كان محمود محمد طه يحاكم الماركسية بالدين ، لذلك ينصرف الى الحديث عن الالحاد ، رابطا بينه وبين الفلسفة المادية فـ " الملحد هو رجل يرفض أن يعتقد في الله، وفي الغيب، وفي الأرواح، وفي الحياة الأخرى التي تكون بعد الموت.. ويرفض ما تقوم عليه الأديان من تفسير للكون - يرفض جملته وتفصيله - ويبني اقتناعه على ما يسميه نظرة علمية للكون، مأخوذة من نظريات، ومعطيات العلم التجريبي المادي.. وفلسفة الملحد هي الفلسفة المادية التي تنبني على نقض قيم الدين، وعلى محاولة تقويضها.. وتسعى لصرف الناس عن الدينونة بتلك القيم، وعن الاعتقاد فيها." 26.والنتيجة أنه ينحاز الى المثالية ضدا عن المادية ، بل إنه ضد الفلسفة كليا ، ولكنه واقعيا يحاول الاحتماء بالفلسفة المثالية لإنقاذ الدين من النقد الماركسي ، اذ الله بالنسبة اليه ليس الا العقل الكلي الذي تقول به الفلسفة المثالية ، لذلك سينحاز الى هيجل في مواجهة ماركس كما سنرى.
و الفلسفة المادية عاجزة برأيه عن ادراك الغيب ، وهذا العجز جعلها تنكره ، وهذا ليس من العلم ، فالعلم هو الايمان بما نجهله حتى نعلمه فـ" العقل العلمي لا ينكر كل ما يجهل، وإنما يؤمن به ريثما يعلمه " 27، و يتحدث من هنا عن جهل وغرور الفلسفة المادية، وذلك ما لا يشرف عقل أي عاقل بحسب رأيه، مُدمجا الأخلاقي في المعرفي، مستغرقا في تناول ايماني لتلك الفلسفة ليصل الى ما يعد جوهر المسألة بالنسبة اليه ، وهو وجود الله ، مُناقشا البراهين على ذلك الوجود واعتراضات الماديين عليه ، ولكنه يستعمل حججا ايمانية لا عقلية ، من ذلك ترديد الآية التالية : يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله.. والله هو الغني الحميد ، مُستنتجا: "نحن، حين نقرر، في آخر السلسلة، أن هناك موجوداً لا يحتاج إلى خالق، إنما نقرره على صورة يقبلها العقل، بل يستحيـل عليه أن يقبل غيرها." 28، وهو ما يعني أنه غير مدرك أن الحجة التي يقدمها نقلية ايمانية ، وهذا مقال لا يسمح به المقام.
ورغم اعترافه بذكاء ماركس نراه يتخذ منه موقفا إيمانيا ، بما يكشف عن حدود تنويره ، ففي معرض حديثة عن العنف في الماركسية وهو ما عرضنا اليه سابقا يقول : " توصل كارل ماركس إلى رأيه هذا عن طريق ملاحظة تطور المجتمع البشري ، وهو يخرج من الغابة إلى المدينة .. وملاحظته ذكية ، ما في ذلك ريب ، ولكنها خاطئة أيضاً حين ظنت أن مستقبل البشرية يمكن التنبؤ به من رصد ماضيها." 29
واذا كان ماركس يرى في الصراع بين الطبقات محركا للتاريخ ، والتناقض بين قوي الإنتاج وعلاقات الإنتاج مفجرا للثورات ودافعا بالمجتمعات نحو تغيرها من نمط انتاج الى آخر ، فإن طه يعتقد أنه "ذهل عن حقيقة كبرى ، تلك الحقيقة هي أن حاضر المجتمع البشري ، في أي لحظة من لحظات تطوره ، إنما يصنعه تفاعل وتلاقح بين قوى المستقبل ، وقوى الماضي .. هذه القوى التي تجئ من المستقبل ، هي التي تعين على تطوير الماضي ، وتحفز وتوجه ، خطوات التغيير فيه .. هذه القوى توفر على تقريرها الدين ، ذلك الدين الذي رفضه كارل ماركس ، رفضاً تاماً ، ومن ههنا تورطت أفكاره في الخطإ" 30. ومرة أخرى نحن أمام نفس الاعتراض الايماني ، دونما قدرة على مناقشة المسألة من زاوية فلسفية صرفة .
ومن هنا نتساءل عن جدوى الميزان الذي يقيس به طه الماركسية ، طالما هو ميزان الايمان لا ميزان العقل ، ميزان الدين لا ميزان الفلسفة ، ومن ثمة ذلك الحديث عن سيئات وحسنات.
الهوامش

19 محمود محمد طه ، الثورة الثقافية ، ولا تزال هذه النظرة سائدة بين تلامذته حتى الآن ، حيث يقول أحدهم " ويجئ اهتمامنا بالماركسية من أنها أكبر وأخطر الفلسفات التي فلسفت العنف وأعطته مبررات موضوعية ، ورغم أن خطر الشيوعية على السلام العالمي قد انحسر كثيرا بعد تفكك الاتحاد السوفياتي ولم يصبح خطرا مباشرا ، كما كان قبل نهاية الاتحاد السوفياتي ، الا أن هذا الخطر لا يزال قائما وسيظل قائما ما لم يتوفر البديل للماركسية " خالد الحاج عبد المحمود ، الإسلام والسلام عند الأستاذ محمود محمد طه ،الخرطوم ، دار عزة 2007 ، ص ص 83 ـ 84.
20محمود محمد طه ، الثورة الثقافية.
21 نفس المصدر.
22محمود محمد طه، الرسالة الثانية من الإسلام. وعلى عكس ما يقوله طه يتحدث أنجلس مثلا عن تغيير اجتماعي تم دون عنف بقوله " لقد كانت العبودية في الولايات المتحدة الأمريكية تعتمد على العنف أقل كثيرا من اعتمادها على الصناعة القطنية الإنكليزية ، أما في تلك المناطق حيث لم يكن ينبت قطن على الاطلاق ، أو لم تكن تنشئ العبيد من أجل الولايات المستنبتة للقطن ، كما هي حال ولايات الحدود ، فقد تلاشت العبودية من تلقاء ذاتها من دون استخدام العنف مطلقا ، وذلك لأنها بكل بساطة لم تعد مريحة " فريد ريك أنجلس ، أنتي دوهرينغ ، ترجمة فؤاد أيوب ، دمشق ، دار دمشق ، الطبعة الأولى 1965 ، ص 193. وهناك مواضع أخرى يذكر فيها انجلس الأمر نفسه مثل "ان تكوين الارستقراطية البدائية نفسها قد حدث كما هي الحال عند السلتيين والجرمان وفي البنجاب الهندي ، على أساس الملكية الجماعية للأرض ، ولم يكن مؤسسا بادئ الأمر على العنف في حال من الأحوال ، بل على القبول الحر والعادة ، فحيثما نشأت الملكية الخاصة ، فقد نشأت نتيجة للعلاقات المتغيرة في الإنتاج والمبادلة ، في مصلحة الإنتاج المتعاظم والتجارة النامية وبالتالي كنتيجة للأسباب الاقتصادية ، ولم يلعب العنف أي دور هنا على الاطلاق " نفس المرجع ، ص ص 194 ـ 195. وكان أنجلس يرد على دوهرينغ الذي يفسر التحولات الاجتماعية بالعنف.
23 المقصود هنا هو الانتفاضة الشعبية التي عرفتها السودان خلال شهر أكتوبر سنة 1964 وأدت الى تنحي الفريق إبراهيم عبود من رئاسة البلاد.
24 محمود محمد طه، الماركسية في الميزان.
25 نفس المصدر.
26 محمود محمد طه ، طريق محمد .
27 نفس المصدر.
28 نفس المصدر .
29 محمود محمد طه ، الثورة الثقافية .
30نفس المصدر .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي