انهيار ثقافة التعالي الصهيوني وراء العنف الوحشي على غزة

هاني الروسان
2024 / 5 / 31

قد لا يكون مستبعدا ان تكون اسرائيل قد بنت عقيدتها للامن القومي على فهم خاطئ لطبيعة تاريخ عدوها، واكتفت بالعودة الى الجانب المظلم منه والذي للأسف امتد على قرون طويلة وكان مزيجا من الانكسارات والهزائم وغطى الوجه الاخر لهذا التاريخ الذي لم يخل من انتصارات وابداعات، وكأننا نستشف من هذا الافتراض -ان صح طبعا- ان استراتيجيي إسرائيل قد استهوتهم اطروحة محمد عابد الجابري لازمة العقل العربي التي فسرها بأزمة انتماء اوسع نطاقا لما يسمى بالعقل المكونَّ والذي هو وفقا للتقسيم الالاندي الفكر الاكثر سباتا وعجزا عن التجاوز وسجين إعادة انتاج الواقع بكل ازماته واخفاقاته، الناجم عن جمود وسائلة وادواته الثقافية التي انتجتها حقبة تاريخية من الانفتاح على بعض الثقافات المجاورة بدون تجديد ، ولم ينظروا باطروحة محمد جابر الأنصاري الذي ذهب في تحليله للازمة على أنها أزمة واقع مهمل وأن علته تكمن بالتجاوز إلى الوراء والقفز إلى الخلف هروبا من صعوبات إعادة التقييم وابتكار الحلول، مما ادى الى تكون عقل عربي سلفي المنهج أغلق في النهاية كل أبواب الفقه والاجتهاد وبقي يدور في حلقة مفرغة اثناء محاولاته لاكتساب المعرفة والتطوير عليها.
ونحن نثير هذه المقارنة بين اطروحتي كبيري الفكر الفلسفي والاجتماعي في العالم العربي، لا ننوي ولا ندعو لتبني هذه الاطروحة او تلك باعتبار التداخل والتكامل بينهما من ناحية، وباعتبار ان النتيجة هي نفسها، وان كل واحدة منها تفسر وجود الاخرى وتشترط في وجودها وجود الاولى، وإنما كان القصد من وراء ذلك فقط لفت الانتباه إلى أن عنصرية ثقافة المركز الاوروبي تكون أكثر ميلا لتبني كل ما هو بيولوجي خلقي وترفض كل ما هو دينامي في حركة الشعوب، وانها كثيرا ما تميل إلى السكون في تقسيم العالم والبشر وترفض إمكانيات انقلاب الأدوار وتبادلها.
وعندما يتزواج هذا الميل العنصري في ثقافة المركزية الاوروبية مع التمهيد المفجع في اطروحة الجابري لقبول هذا الميل فإنه بالقدر الذي يكون فيه سببا لاستسلام طرف وقبوله بتبوء المرتبة الدنيا في سلم الوجود، فإنه يتسبب بقدر اكبر للطرف الاخر بالاستسلام لاطمئنان كاذب بتعالي وجوده الطبيعي المجرد والركون إلى حتمية اكثر كذبا في البقاء الدائم على قمة الهرم. وهي تمام الحالة التي باتت عليها إسرائيل او انها أسست لوجوها وبقائها على ضوئها - اي حالة الاطمئنان - ولم تتحسب لامكانية ان ا لا يمكن للعقل أن يكون لاهوتيا منقطع عن الواقع، كما إن التقسيم اللالاندي للعقول هو تقسيم لضرورات معرفية اكثر منه تقسيم مناطقي يعكس حالة من الترابط الجمود والدائم بين العقل وجغرافيته، خاصة وان تطور تكنولوجيات الاتصال الحديثة اليوم قد بدد من قوة اثر دكتاتورية الجغرافيا العتيقة، وغير زمن وسرعة التأثير المتبادل بينهما، حتى أصبح الإبداع حقلا لصراع العقول المجتهدة والمتحفزة فقط.
وما يحدث اليوم في فلسطين عموما وفي غزة على وجه الخصوص يقدم نموذجا اربك الاسرائيليين والامريكيين معا، وبدأ يؤسس لبداية صدمة حضارية نهضوية، حيث أن محاكاة الواقع وإعادة إنتاجه على شكل اكثر تطور افقد الاسرائيليين زمام المبادرة، وأن كانوا لم يصدقوا ذلك بعد، كما تجسده احلام نتنياهو واليمين المتطرف بامكانية الانتصار الكامل، إذ لا يعقل بالنسبة له أن شعبا اعزلا من جانب وينتمي لامة العقل المكوّنَ يمكن له أن يهزم دولة تدعي انتماءها لدول المركز وتمتلك انواع شتى من القوة.
ان الاسرائيلي المسلح بثقافة التعالي النهائي على الآخرين والمدعوم من قوى عالمية تنتمي إلى نفس الثقافة هو ما يجعله اكثر عنفا ودموية ويتصف رد فعله بوحشية بالغة على كل فعل من خصمه يأتي خارج حسابات أدوات تفكيره المعرفي، ويجعل الثانية - اي القوى الداعمة له - اكثر تواطأ واشد صمتا عن ما يقترفه من جرائم هذا إلاسرائيلي المصدوم بالفعل الفلسطيني المتجاوز للسائد والمتوقع.
لقد جاءت عملية السبت الماضي حيث أعلنت المقاومة عن اسرها لعدد من الجنود الاسرائيليين في عملية وصفت بالاكثر تعقيدا وايلاما لاسرائيل وقصف تل اببب برشقة صاروخية مكثفة من جنوب غزة بعد اكثر من ثمانية اشهر من مزاعم تحقيق انتصارات استراتيجية، لتعمق الشعور بالارتباك والحيرة عند قادة الجيش والحكومة وعدم القدرة على تفكيك شيفرة هذا الفعل النوعي.
فاليوم غزة وعموم فلسطين بالقدر الذي تلقن به إسرائيل درسا جديدا وتعريف آخر لمفهوم النسيان خارج نطاق كلاسيكيات علم النفس الاجتماعي وبأنه لايمكن لها طمس حقوق الشعب الفلسطيني الذي لن يقبل بأقل من حريته بإقامة دولته واستعادة كل حقوقه الوطنية، فإنها تطيح بالتقسيمات الفلسفية لمفموم العقل وزمن انتقاله من المكوَّن إلى
المكوِّن، الذي يؤسس لثقافة صمود وانتصار وخلق وابداع غير معهودة، وانها ان لم تحقق الانتصار الحاسم الان، فانها قد وضعت الاساس المتين للانتصار الحتمي.
واليوم ايضا إذ يخجل كبار المحللين الاستراتيجيين من الامريكان وكذلك زملاؤهم من اوروبا إعلانها صراحة، بان انتصار الفلسطيني أصبح حتمية وحقيقة قائمة، حفظا لماء الوجه فإنهم صاروا يكتفوا بالحديث عن استحالة الانتصار الاسرائيلي الكامل وأن وقف إطلاق النار صار ضروريا، وأن حل الدولتين الخيار الأكثر امنا لبقاء إسرائيل في المنطقة، وأن على إسرائيل ان تراجع اسس عقيدتها الأمنية التي بنتها على اوهام من التفوق الحضاري، وبعض الاستراتيجيات العسكرية التي تنتمي لحروب ما قبل حروب العقول الجديدة عقول التفوق على الذكاء الصناعي.
هاني الروسان/ استاذ الاعلام في جامعة منوبة

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي