|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
نعمت شريف
2024 / 3 / 25
كنت نزيلا في فندق قرطبة بشارع الرشيد في بغداد، وكانت الشمس تميل للغروب عندما رجعت الى غرفتي كي انال قسطا من الراحة من اعباء اليوم وربما اطرد الضجر والقلق الذين كانا يلازمانني طول النهار. لم تكن هناك مصاعد في ذلك الزمن فبدأت اصعد الى الطابق الاول مشيا وانا اترنح من شدة التعب ومن الازمة النفسية بعد الفشل صباح اليوم في الفحص الطبي للقبول في كلية الطيران كما كانت تسمى في ذلك الوقت.
كانت كلمات الآمر ترتسم في مخيلتى باشكال شتى. دوائر الافق للمستقبل القريب تتلون بالوان مختلفة، تتسع وتنكمش شيئا فشيئا وتأخذ طريقها الى معسكر الغزلاني في الموصل حيث ينتهي كل شئ في يوم 1 كانون الثاني 1972 عندما يتم تجنيدي مكلفا لانال ما انال من الاهانات والتمييز والاعمال الشاقة، لان هذا الفشل سيلاحقني الى ان انهار وانتمي لحزب الحكومة الذي يمجد الدكتاتورية والعنصرية، كما واني لست من قوميتهم فكيف انتمي! يوم عيد رأس السنة الميلادية حيث كان الكثيرون يحتفلون ويقيمون الولائم وحفلات العرس وغيرها ليصبح العيد عيدين كما يقول العراقيون.
كل شئ يبدو بعيدا عن الحقيقة والواقع وما تكنه الايام من مسرات واحزان فاني لا زلت متعلقا بامل القبول في كلية الهندسة والا في معهد المعلمين رغم ان اسمي لم يظهر في قائمة المقبولين وقدمت عريضتين ارفع فيها صوتي احتجاجا على الوضع المزري، اولهما يوم الاثنين لوصولي الى هنا، وثانيهما هذا اليوم، ولكن الدوائر التي تتضمن كلمات الآمر التي القاها باستعلاء وعنجهية امام زملائه لا تزال تحز في نفسي " هذا لا يصلح للقوة الجوية" قالها بتهكم بعد اشارة صغيرة من اصبعه وجهها الى الدكتور الملازم. ذراعي اعوج! ولكن صالح للعمل، ولم تجد محاولاتي البائسة نفعا، فشلت في الفحص.
وجدت نفسي اما باب غرفتي الذي يقع في نهاية الدرج مباشرة، دخلت واذا بشخص اسمه عبدالله، احد متستخدمي الفندق، يشخر في نوم عميق. تأوهت وقلت في نفسي "ليت شعري، انا كذلك استطيع النوم بهذا القدر من الهدوء والراحة" ولكن خطر لي ايضا ربما له منغصات ايضا ونام، هكذا يبدو هادئا من شدة الاعياء والتعب. وانا كذلك. استلقيت على السرير المتواضع، لم استطع النوم ولكني غرقت في حالة بين النوم واليقظة، واستعدت في ذاكرتي احداث اليوم التي انتهت بي الى هذه الحالة التي وضعتني وجها لوجه مع المستقبل. لا زلت اتذكر المكاتب الاربعة التى تواجهها عندما تدخل من الباب الخارجي، كانت على اليسار غرفة "القلم"، التي تبدأ منها وتنتهي بها، ومن ثم تواجه ثلاثة غرف اخرى على التوالي تبدأ بغرفة طبيب الفحص، ثم آمر الطبابة، والاخيرة كانت مخصصة للمتقدمين حيث يغيرون فيها ملابسهم. بعد ان اجرى الطبيب الفحص الطبي واجبت على اسئلته، صافحني مهنئا وتمنى لي مستقبلا وضاءا لخدمة الوطن، وانهى تهنئته بقوله، بامكانك ان تذهب وترتدي ملابسك. شكرته، وغادرت غرفة الفحص، وما ان دخلت الغرفة الاخرى لارتداء ملابسي حتى لحق بي ونبهني الى ان لا البس حتى اقابل الآمر. تبعته، الى غرفة الامر بعد ان استأذن بالدخول وقال له بلغة لم افهمها آنذاك، وعلى الارجح كانت الانكليزية، فقال الامر ذو الشاربين المعقوفين المتدليين فوق شفتين غليظتين، وحواجبه الكثة توحيان بغلضته وعدم الاكتراث لما يجري. لم اكن اعرف الرتب العسكرية ولكنه كان يحمل عددا من النجوم والشارات العسكرية التي تبدي اهميته وانه المطاع هنا. فقال موجها كلامه لي بكل خشونة:
-تقدم، مشيرا بمسطرته الى امام مكتبه
-نعم سيدي
-"مد ايديك"
-نعم سيدي
القى نظرة سريعة وبلا مبالاة على ذراعيّ الممدودين امامه، واستقر نظره على ذراعي الايسر فقال:
-"ايدك اعوج" مشيرا بمسطرته الى مرفقي الايسر
- سيدي "ايدي طبيعي"
- "لعد طبيعي اعوج، اطلع برّة"
اشاح بوجهه عني قائلا للطبيب بتلك اللغة الغريبة شيئا لم افهمه. رافقني الطبيب الى الباب ليغلقه ورائي من دون ان ينبس ببنت شفة.
توجهت مثقل الخطى الى غرفة الملابس، وامام الباب، لحق بي البوّاب وهو ينظر يمينا وشمالا ليتأكد من انه غير مراقب، وقال لي بسرعة، البس واذهب الى القلم فالضابط الذي تراه هناك من مدينتك. وقبل ان انتهي من شكره، اختفى بسرعة البرق الى الجانب الاخر من الممر.
دخلت الغرفة وبدأت ارتدي ملابسي، وخطر لي المثل القائل "الغريق يتعلق بالثعبان"، لعل فيما قال يكون خيرا، فاحيانا ترى حتى بين الانذال من فيه شعرة من الغيرة الانسانية تتحرك عندما يبلغ عنده السيل الزبى. انتهيت من ربطة العنق على مضض، ووضعت ابتسامة باهتة على وجهي تنم عن قلق عميق واتجهت الى غرفة "القلم"، وقفت بالباب استئذانا للدخول، وبعد ان وضعه اوراقه جانبا قال الضابط لي:
- تقدم، سمعت من الجانب الاخر يقول:
- تحية!
اديت التحية العسكرية، وتقدمت الى الضابط.
- "اش عندك"؟ قال لي الضابط
فقلت على الحال:
- "سيدي، انت ابن ولايتي، ما عبرت الفحص عند الامر"
- اي نعم، جيب اضبارتك ومد يده لتناولها (اي اعطني الاضبارة او الفايل الذي في يدك)
كانت الاضبارة ثخينة مثقلة بالهموم والطلبات وما اليها من متطلبات التقديم الى كلية الطيران العسكرية. ناولته الاضبارة، وبدأ يقلب الاوراق صفحة صفحة حتى اتى الى نهايتها. رفع رأسه قائلا:
- "وين التزكية؟"
- تزكية، من وين، سيدي؟ قلتها بكل ثقة تبريرا لموقفي وكأنني متهم بجريمة ما، رغم انني عرفت المقصود.
- تزكية الحزب. روح للفرع عندكم، واطلب التزكية، وقل لهم ان ضابط القلم "دزك (اي ارسلك) وهمّ يعرفوني"
- نعم سيدي، شكرا وسأرجع بعد يومين او ثلاثة. صافحته لاطمئنه على انني اقدر مساعدته وساعود اليه.
تركت الغرفة، وقد انتهت امالي في القبول الى الابد. قلت لنفسي وانا اغادر الغرفة، "والله، لن ارى هذه الوجوه اللعينة مرة اخرى ولن اعود، فالفرع المذكور يعرفونني، ويعرفون توجهاتي وانتماءاتي، وسوف لن يقدموا تزكية الحزب ابدا.
فتحت عيني، وكأنني افقت من غيبوبة طويلة، جلست متثاقلا، وفكرت ماذا يجري لي، لا بد ان اجد حلا، فعائلتي تتوقع مني الصمود واخوتي ينتظرونني.
جلست اكتب اسمي على عدة كتب اشتريتها عندما مررت بشارع الرشيد في بغداد. شعرت بانني بكل كياني اصبحت سجينا في هذه الغرفة، بين جدران اربعة، وهو كنه مستقبلي ايضا، هكذا سأكون في معسكر الغزلاني او اي معسكر آخر، وليته يكون هذا. لست ادري لماذا كنا نكره الى هذا الحد الخدمة في الجيش، واعلم انني لست وحيدا في هذا الشعور، كنا نمقت الخدمة عقلا وقلبا وكيانا. اعتقد لانها كانت تحطم امال الشباب في مستقبل افضل، وبعد سنتين من الخدمة الالزامية يصبح من المستحيل العودة الى مقاعد الجامعة. المستقبل بالنسبة لي ينذر بالخطر، سيكون لي خياران لا ثالث لهما اما التطوع للاستمرار في سلك الجندية، او مواجهة البطالة.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |