من أجل ثقافة جماهيرية بديلة-أصول الفلسفة الماركسية-بوليتزر54

عبدالرحيم قروي
2024 / 3 / 17

أصول الفلسفةالماركسية
الجزءالثاني
تأليف جورج بوليتزر، جي بيس وموريس كافين
تعريب شعبان بركات
الحلقة الرابعة و الخمسون
المادية التاريخية
تابع

ولقد كرس دستور ستالين، وهو انعكاس للأساس الاقتصادي الجديد، هذا الوضع، بقوله:
تنتمي كل السلطة في الاتحاد السوفياتي إلى عمال المدينة أو القرية، وذلك في شخص سوفيات نواب العمال "المادة 3".
ولهذا فليس في الاتحاد السوفياتي شخص يسمح له بالخروج على القانون. وإن كان هذا لا يسر المفكرين البرجوازيين الذين يجعلون من الاشتراكية مثيلا للفاشية. ذلك لأن الدكتاتورية الفاشية، التي أقامتها أكثر عناصر رأس المال الكبير رجعية، لا سلاح بين يديها سوى سلاح الاضطهاد والإرهاب، فهي تدرس بأرجلها الشرعية البرجوازية نفسها.بينما تستمد الديمقراطية الاشتراكية، على العكس، قوتها من تأييد العمال، فهي لا توجد إذن إلا إذا ضمنت لهم ممارسة حقوقهم الخاصة والعامة. وعلى الحكومة السوفياتية، كأي مواطن، أن تحترم الدستور وأن تلتزم بنصوص القوانين. وهي لا يمكنها أن تتصرف بصورة أخرى دون أن تفقد كل سلطتها.
وهكذا يكون مثل روسو الأعلى – الديمقراطية كتعبير عن الإرادة العامة – قد تحقق تماما بواسطة دكتاتورية البروليتاريا، ولا يمكن أن يتحقق ذلك إلا بإلغاء تعارض الطبقات الاقتصادي.
مهمة الدولة السوفياتية، التي تعتمد على نشاط جماهير الشعب الواعي، ضخمة في بناء الاشتراكية. والسلطة الجديدة شرط ذاتي ضروري لظهور علاقات إنتاج جديدة، وذلك لأن سلطة البروليتاريا لها ميزة خاصة بها، وهي أنها تسبق، تاريخيا أساسها الاقتصادي، ولهذا كان عليها أن توجد أساسها الخاص بها. بينما كان على السلطة البرجوازية، أن توفق بين سيطرة البرجوازية السياسية والاقتصادية البرجوازية الموجود سابقاً. يضاف إلى ذلك أنه كان على الثورات السابقة على الثورة البروليتاريا أن تحل صورة من الاستغلال "البرجوازية" محل صورة أخرى من الاستغلال "الإقطاعي" بينما تقضي الثورة البروليتارية على كل استغلال، وهذا يزيد في أهمية الدولة.حتى إذا ما وجد الأساس الاقتصادي الاشتراكي، كانت الدولة السوفياتية انعكاسا لأساسها الاقتصادي، وأمكن التعبير عن حقيقة الوقائع في صورة جديدة ألا وهي الدستور الستاليني لعام 1936.
ويمتاز الدستور السوفياتي بميزة خاصة به وهي أنه بدلا من إعلان حقوق مجردة مرجئاً إلى ما بعد إيجاد الظروف المادية التي تسمح بممارسة هذه الحقوق – كما تفعل الدساتير البرجوازية – فقد كرس وجود حقوق واقعية وجدت أسسها المادية، مثال:
للمواطنين في الاتحاد السوفياتي حق العمل، أي حق الفوز بعمل مضمون مأجور حسب كميته ونوعه.
وحق العمل مضمون بتنظيم الاقتصاد القومي الاشتراكي،ونمو قوى الإنتاج المستمر في المجتمع السوفياتي، وإزالة إمكانية الأزمات الاقتصادية والقضاء على البطالة "المادة 118"
فهل يعني هذا أن الدولة السوفياتية تكتفي بعكس أساسها الاقتصادي بصورة سلبي؟ كلا! فهي لا تكف، في أي وقت، عن أن تكون قوة فعالة تسرع في تنمية الاقتصاد الاشتراكي وتخطيطه بصورة مناسبة، معتمدة في ذلك على معرفتها بقوانين الاقتصاد الموضوعية.
هناك شيئان ضروريان للدولة السوفياتية للقيام بمهمتها وهما:
1 – معرفة قوانين الطبيعة والمجتمع، أي العلم.
2 – تأييد الجماهير الواعية بعد أن تمثلت الأفكار الجديدة. فيزداد من جراء ذلك الدور الضخم الذي تقوم به الاشتراكية العلمية أثناء قيام سلطة البروليتاريا السياسية. ولهذا فأن النضال الواعي ضد الأفكار البرجوازية، ونشر الماركسية اللينينية بين جماهير الشعب، وإيجاد ثقافة جديدة، قومية في صورتها، اشتراكية في محتواها، كل ذلك شروط ذاتية ضرورية لبناء الاشتراكية.
كلما تقدم بناء الاشتراكية كلما أزداد الدور التربوي والثقافي الذي تقوم به الدولة السوفياتية، وهي دولة من نوع جديد. ولا يعني ازدياد دور الدولة بازدياد "الضغط الاستبدادي" الذي يتحدث عنه أعداء الماركسية. هذا الدور الجديد للدولة لا تجهله تقريبا الدول البرجوازية أو الرأسمالية، التي لا يستطيع رفع مستوى الجماهير الثقافي والفكري بدون المخاطرة بمصير الطبقة المسيطرة! ولهذا تهتم الدولة الرأسمالية بصورة رئيسية، بمتطلبات الاضطهاد. بينما تصبح دولة العمال، على العكس، مع معرفتها كيفية الدفاع عن وجودها، المركز الموجه، شيئاً فشيئاً، لعمل الجماهير الخلاق، سواء في الميدان الاقتصادي أم الميدان الثقافي. فهي منظم الجماهير ومربيها، وليست عدواً لها ولهذا يعني ازدياد الدولة السوفياتية، هنا أيضاً اضمحلال صفات الدولة التقليدية"!
ولهذا تهتم الدولة نفسها بالثورة الثقافية، وإذاعة الأفكار والعلم التقدمي بين الشعب، وانتصار الأفكار الاشتراكية على الأفكار البرجوازية، وذلك حسب تعاليم المادية الجدلية حول مهمة الأفكار في الحياة الاجتماعية. بينما أوجد تحول علاقات الإنتاج الظروف لظهور وعي جديد في الجماهير، وذلك بإزالة الأسس الموضوعية للأفكار البرجوازية: وهي ملكية وسائل الإنتاج الخاصة. ولهذا لم يوجد الوعي الجديد الاشتراكي من العدم. ومهمة الدولة هي التوفيق, بقدر الامكان, بين وعي الجماهير وبين الظروف الجديدة الموضوعية، الاشتراكية، وأن تسرع في العملية التي تساعد على ظهور صورة جديدة من الوعي تتفق والمحتوى الجديد. وكذلك يجب دفع الوعي الاشتراكي، إلى الأمام، في نفس الوقت، وذلك بفضل معرفة قوانين المجتمع. حتى تستطيع معرفة سير النمو والتعجيل في النمو الاقتصادي وذلك بتأثيرها بدورها في الشروط الموضوعية. وهكذا نرى أن الشروط الموضوعية والشروط الذاتية، في المجتمع الاشتراكية، لا تتناقض بل تؤثر تأثيرا متبادلا وتدعم كل منها الأخرى. ولهذا يمكن للمجتمع الاشتراكي أن ينمو ماديا وثقافيا بشكل لا يعرفه المجتمع البرجوازي. كما كان التنافس الاشتراكي مثالا على أهمية وعي الجماهير الجديد بالنسبة لنمو الإنتاج الاشتراكي. وعلى الأدب والفن أن يقوم بدور مهم في هذا التحويل للوعي: فيصبح الفنانون، حسب قول ستالين "مهندسي النفوس".
يتضح أخيرا أن جميع المهمات الملقاة على عاتق الدولة الاشتراكية لم يمكن تحقيقها – منذ الفوز بديكتاتورية البروليتارياحتى الثورة الثقافية – لو ـ أن الطبقة العاملة وحلفاءها لم يكن على رأسها جماعة واعية منظمه، أي حزب سياسي، مرتبط بالجماهير، ومسلح بالنظرية الماركسية اللينينية عن المجتمعات وهو الحزب الشيوعي. يزداد دور هذه الطليعة، التي تضيء طريق المجتمع الاشتراكي وتوحد النظرية مع التطبيق، كلما ظهرت متطلبات جديدة، مادية أو ثقافية، وكلما أزداد دور الدولة السوفياتية.
6 – الخلاصة
القانون الاقتصادي السياسي للاشتراكية هو قانون موضوعي، وذلك لأن سد رغبات الجماهير المادية والثقافية إلى أقصى حد ليس ثمرة "الاختيار الحر" الحكومة، ولا يمكن أن يكون كذلك، بل هو النتيجة الضرورية لاشتراكية وسائل الإنتاج. ولا تستطيع سوى سلطة الطبقة العاملة أن تعطي للجماهير ما تعدهم به لأنها جعلت وسائل الإنتاج اشتراكية، ولأنها تعتمد على القانون الموضوعي الذي يميز علاقات الإنتاج الجديدة. ومما يميز النظرية الماركسية للاشتراكية عن النظرات الخيالية "الأوتوبية" (utopiques ) أنها تجعل مطلب الجماهير الذاتي منذ آلاف السنين يتفق ومتطلبات القانون الاقتصادي الأساسي لنوع من الإنتاج قد حدد بصورة علمية. وهذا ما يفسر نجاح بناء الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي بقيادة الحزب الشيوعي، وليس بسبب "اختيار حر" أو حظا سعيد بل لأنه كان ملماً بعلم المجتمعات".
ويرد أعداء الاشتراكية , وهي البرجوازية الرأسمالية بأن نجاح بناء الاشتراكية لا يمكن تحقيقه ألا باستعباد الفرد. فيزعمون أن الاشتراكية تقضي على الشخصية الانسانية كما تقضي على الطاقة الشخصية والمبادرة الشخصية، وكذلك تقضي على طاقات الأفراد ومواهبهم وحقوقهم وحرياتهم، وأنها تسوي بين الحاجات والأذواق. والحقيقة هي أن الرأسمالية باستغلالها وتشويهها للعمال جسديا وفكريا تقضي على عالم من المصالح الروحية والمطامح والطاقات الإنسانية وتجعل من العامل تبعاً للإلة، وتشوهه في فرديته الجسدية والأخلاقية وتستعبده في العمل، تحت ظل نظام يقوم على الاضطهاد والمجاعة والبطالة، يبعث القلق في حياته ويجعل من الناس آلات متحركة (Robots). يقف الإنسان وحيدا أعزل أمام الرأسمالية، وليس هناك من وسيلة لتحريره سوى إتحاد المستغلين المضطهدين، والنضال الثوري. ولقد قال ستالين عام 1906: "الشعب هو حجر الزاوية في الماركسية" لأنه بدون تحرير جماهير الشعب لا يمكن تحرير الفرد: فهو الشرط الأساسي لتحرير الفرد.
ويؤكد أنصار الرأسمالية أن كل إنسان، في ظل الرأسمالية، ذي عزيمة وجرأة، يستطيع ولو كان معدما، أن "يخط طريقة" ويحتل مكانة تناسب كفاءاته. ويذكرون بأمثلة موفقة" عن ماسحي أحذية أصبحوا من أصحاب الملايين. ولكنهم لا يكشفون عن أن "نجاح" البعض أنما يدفع ثمنه آلاف العمال المستغلين. وتدل ضرورة "خط الطريق" في النظام الرأسمالي إن وضع الناس في المجتمع البرجوازي يحدده مدى الملكية الخاصة. ولا يحتل مراكز الإدارة إلا ممثلو الطبقات "العليا" وهكذا يتحدد وضع الناس حسب ثروتهم أو طبقتهم أو ملتهم أو أصلهم القومي، أو جنسهم، أو طائفتهم، أو محالفاتهم أو من يلوذون بهم، الخ.ذلك هو ((الوضع)) الذي يعتبره((مفكرو)) الرأسماليين (( أخلاقيوها)) خالدا" و "منطقيا" معقولا يمكن تصوره .. فيمتدحون "الطاقات الخلاقة" عند آل كروب، وستين، ومورجان، وروتشيلد، وروكفلر، وفارد، يبوساك للتدليل على أن لهم الحق في احتلال مركز رئيسي، غير أن كل واحد منا يعلم أن "الطاقات الخلاقة" عند الرأسماليين إنما ترجع لبراعتهم في سلب فائض القيمة من العمال المأجورين، وإن مقدار رأسمالهم فقط هو الذي يحدد وضعهم المسيطر. وهذا ما يحدد "قيمة" الإنسان في النظام الرأسمالي.
إما في الاشتراكية فأن ارتفاع قيمة الفرد، ونمو طاقاته ومواهبه الخلاقة يشترط ارتفاع طاقات جماهير الشعب الخلاقة، نفسها. ولقد برهن لنا قانون الاشتراكية الاقتصادي الأساسي على مهمة التقنية التقدمية، كما أشارت دراسة شروط الاشتراكية الذاتية إلى أهمية الوعي الاشتراكي الذي هو قوة هائلة نشيطة للمجتمع الجديد.
ويجب أن ندرك من هذه الدراسة المزدوجة أن الاشتراكية تنمي شخصية العامل في جميع جوانبها: فتجعل منه عاملا تقنيا (Technicien) مثقفا، كما تجعل منه إنساناً اجتماعيا يملك معرفة واسعة عميقة لمشاكل المجتمع، فهو بناء واع لحياة جديدة. وبدلا من أن يبقى نمو الفردية الإنسانية المتعدد، ونمو الطاقات الشخصية، ظاهرة وحيدة، كما هو الحال في الرأسمالية، يصبح ذلك في الاشتراكية ظاهرة شعبية منتشرة فالتنافس الاشتراكي دليل حي على الإمكانات التي تتاح للمبادرة الشخصية والذكاء الخلاق عند الجميع. ولهذا يعد في الاتحاد السوفياتي بالملايين، المجددون، والمخترعون والعمال المختصون، والمجربون في الزراعة، ومنظمو الإنتاج والاقتصاد، والمفكرون الذين انحدروا من الشعب، والرجال والنساء الذين يمارسون نشاطا اجتماعيا وسياسيا، والعمال الذين يمكنهم الاشتراك في نقاش علمي، أو مسابقة أدبية أو فنية، والعديد من أبطال العمل الاشتراكي، والفائزون بجائزة مالية، ولا يحتل الإنسان حقا مكانة تليق بمواهبه، بدون اعتبار للأصل أو الجنس أو الثروة، إلا في المجتمع الاشتراكي.
الاشتراكية هي حقا حكم الجماهير الشعبية،وملايين الناس الذين كانوا ضحايا الاضطهاد وحرموا، بواسطة الاستغلال، من كل نمو إنساني. هذه الجماهير الشعبية هي التي تصنع التاريخ، لأنها الوحيدة التي تستطيع القضاء على سلطة رأس المال. حتى إذا ما تحررت من نير الاستغلال أقامت لنفسها حياة جديدة، وهي، بازالتها لاستغلال الإنسان لأخيه الإنسان، قد وفقت بين الفرد والمجتمع ووضعت في يد كل إنسان الوسائل كي يتفتح تماما.
يتبع

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي