النحل أم الدبابير

الهيموت عبدالسلام
2024 / 3 / 7

يتحول طعام النحل إلى عسل وطعام العناكب إلى سم
الغريب في الأمر أنه في عالم الحيوانات وربما حتى في عالم الإنسان أنه من نفس الزهرة تستخرج النحلة العسل ويستخرج الدبور السم، أي نفس الطعام يتحول إلى عسل لدى النحل وإلى سم لدى الدبابير والعناكب وبعض الحشرات، نفس المقدمات لا تؤدي لنفس النتائج ، ونفس المُدخلات لا تؤدي لنفس المخرجات، النحل والدبابير مثلا : تنتميان معا لعالم الحشرات، يمتص النحل والدبابير نفس الرحيق ومن نفس الزهور والنباتات ، وللنحل والدبابير خطوط صفراء وسوداء على بطنهما، ويطيران بسرعة، الأغرب من ذلك أن للنحل وللدبابير دورة حياة بيولوجية واحدة، تبدأ الحياة كبيضة ، ثم تتقدم عبر مراحل اليرقة ثم الحوريات، ثم مرحلة البلوغ ،وربما يمارس كلاهما نفس الحركات أو الرقصات التواصلية التي يؤديها النحل والدبابير لنقل الرسائل للإشارة إلى الاتجاه والمسافة التي يوجد بها مصدر الغذاء أو المأوى الجديد ،كلاهما حشرة اجتماعية، وأن الدبابير والنحل أبناء عمومة، وكلاهما يدافعان عن أنفسهما باللسع نتيجة الاستفزاز، فقط الدبابير أكثر عدوانية من النحل لأنها تلسع أكثر من مرة إذا ما تعرضت أعشاشها للإزعاج وخاصة خلال فصل الصيف، أما النحل يلسع مرة واحدة فقط ثم يفقد شوكته وبطنه مما يؤدي إلى موته، أما إناث الدبابير فإنهن يلسعن بشوكتهن ولا يفقدنها ولهذه الشوكة وظيفة إنجابية ونفس الشوكة تستخدمها لحقن السم في فرائسها. الهدف من سرد الخصائص المشتركة وأوجه التشابه الكثيرة فإنهما لا ينتجان نفس العسل.

عسل النحل أكبر هدية وهبتها الطبيعة للإنسان، واعتبر دائما رمزا للحياة والنقاء والوفرة والحكمة، وله العديد من الخصائص العلاجية لمعظم الأمراض التي تصيب الإنسان، في حين أن العسل الذي تنتجه الدبابير يتشكل من الماء والسكر لأن الدبابير تحول العسل عن طريقة تناوله وترجيعه عدة مرات مع إضافة إنزيمات هاضمة تضيفها الدبابير عندما تتقيأ الرحيق، وربما لذلك فإن عسل الدبابير أكثر حموضة ومرارة من عسل النحل.
والدبابير لا تنتج العسل بكميات كبيرة ربما لأن عسل الدبورعبارة عن خليط من الرحيق والإفرازات التي تنتجها اليرقات والتي تجمعها العاملات، بل ويصل المختصون إلى اعتبار عسل الدبابير عسل مصنع إذ يتغدى العمال على الزهور ويجمعون الرحيق وبمجرد عودتهم يقومون بتقيؤ هذا الرحيق المهضوم جزئيا لإطعام اليرقات، هذه اليرقات هي التي تحول الرحيق إلى عسل، ثم تخزنه في خلاياها لاستهلاكه في المستقبل.
وقد يعود ضعف جودة عسل الدبابير لخرطومه القصير الذي لا يصل إلى قاع الزهور العميقة لامتصاص الرحيق، وربما أنه ليس للدبابير أنظمة متينة لتخزين حبوب اللقاح مثل سلال النحل. وربما حموضة الدبابير تعود لأنها من آكلات اللحوم على عكس النحل فهو نباتي فقط ويتغدى من رحيق وحبوب الأزهار ولا يضع خرطومه على لحوم الفرائس ليمتص دمها، وله غدد خاصة لإنتاج العسل ولا يتقيأ ولا يضيف إنزيمات هاضمة مثل الدبور.
الدبورعندما يكون بالغًا فإنه يتغذى على الرحيق والنسغ الحلو والفواكه ولكن لإطعام يرقاته يصطاد الحشرات وخاصة العناكب، ويطعم اليرقات بقِطع اللحم التي يمضغها بفكه السفلي وللدبور فكان سفلي وعلوي مما يؤهله لافتراس اللحوم والنباتات على حد سواء.
وكم يتعب النحل من أجل الآخرين لدرجة أن ما لا يفيد الخلية لا يفيد النحلة، ولأن للنحل قدرات معرفية مذهلة بالنسبة للحيوانات الصغيرة ذات الأدمغة الصغيرة، فإن الشبكات العصبية تلهم حتى الباحثين في الذكاء الاصطناعي، النحل يسير راقصا فوق الزهور الأكثر حموضة ويحط فوق الأزهار الشائكة ليجد العسل النقي والأكثر فائدة.

تحتوي الخلية على عشرات الآلاف من العاملات، جميعهن بنات ملكة واحدة، هؤلاء العاملات هن من يضمن بقاء "المستعمرة" واستمرارها، تعيش العاملة من أربع إلى ستة أسابيع، وتقضي فصل الشتاء في سبات، وتقوم خلال حياتها القصيرة بالعشرات من المهام المختلفة، مثل تنظيف الخلية، ورعاية اليرقات، وجمع الطعام.
العمل داخل الخلية نمطي وغريزي وتلقائي تعتمد فيه على المحفزات البصرية والشمية على عكس عملية البحث عن الطعام فإن النحلة الباحثة عن الطعام يجب عليها اختيار الزهور والتنقل في بيئة معقدة ومتغيرة ولا ينفع معه النمط الغريزي والنمطي.
الأمر الأكثر إثارة للاندهاش أن النحلة لديها دماغ صغير: 960 ألف خلية عصبية يمكن رسمها في أقل من ميليمتر مكعب مقارنة ب 100 مليار خلية عصبية لدى الإنسان، هذا الدماغ يؤهلها لتحدد موقعها داخل دائرة نصف قطرها أكثر من عشرة كيلومترات بعيدا عن الخلية، مع حفظ خصائص مصادر الغذاء التي تمت زيارتها، ومعرفة التفاوت الزمني لأن بعض الزهور تنتج رحيقا أقل أو أكثر حسب الوقت، وتعرف الجودة مثل تركيز السكر في الزهور، يقول "كارل ماركس" " إن ما يميز أسوأ مهندس معماري لدى النحل الأكثر خبرة هو أنه بنى الخلية في رأسه قبل أن يبنيها في الخلية"
على مدى القرن الماضي، تم استخدام النحل في مئات الدراسات حول الإدراك والتعلم والذاكرة، كان العالم النمساوي "كارل فون فريش" (1886-1982) رائدا في هذا المجال، حصل بحثه على جائزة نوبل في علم وظائف الأعضاء عام 1973، وقد حدد بشكل خاص المنهجية التي لا تزال تستخدم حتى اليوم لدراسة إدراك النحل وذاكرته ويخلص أن للنحل سلوك يُعرف باسم ثبات الأزهار، عندما يجدون أزهارا تحتوي على الرحيق، فإنهم يحفظون خصائصها وبالتالي يزورون فقط الزهور من نفس النوع، كما إنهم يتخلون عن الأنواع من الزهور "الفارغة"، يتيح هذا السلوك تدريب النحل على جمع محلول سكري مرتبط بصورة ما وحفظه والعودة إليه خلال الزيارات المتعاقبة وذلك لساعات متواصلة من أجل استعادة أكبر قدر ممكن من الماء المحلى بالسكر إلى الخلية.
ظهر النحل الأول منذ حوالي مائة مليون سنة في إفريقيا وآسيا، وذلك بعض ظهور النباتات المزهرة، والنحل الحالي ينحدر من فصيلة "أبويدا" وجميع أصناف النحل ينتمون لهذه العائلة، وهناك ما يقرب من 20 ألف صنف من النحل بالعالم ولكن الأغلبية لا تنتج العسل.

ماذا لو اختفي النحل؟
إن النظام الغذائي يعتمد على الخضر والفواكه والحبوب ، ومعظم هذه النباتات يتم تلقيحها عن طريق الحشرات وخاصة النحل بنسبة 70%، إن الملقحات تساهم بشكل مباشر في توفير الغذاء العالمي يصل إلى 40% من الاستهلاك العالمي، وفي غياب الملقحات سينخفض تخصيب النباتات وبالتالي سينخفض التنوع البيولوجي وستنقرض العديد من الكائنات الحية وكذا النباتات المزهرة من خلال زواج الأقارب وعدم التكيف مع البيئة ، حتى اللحوم التي نتغذى عليها تعتمد على النباتات ، إن حوالي 20 ألف نبات خاصة الفواكه والخضر والبذور والمكسرات معرضة للاختفاء باختفاء النحل ، تقدر الخسارة الإجمالية لغياب التلقيح الحشري يمكن أن يؤدي إلى مليون حالة وفاة إضافية سنويا بسبب الأمراض غير المعدية خاصة وسط وجنوب إفريقيا وجنوب شرق آسيا، وتعزى جميع المشاكل الصحية إلى الزيادات في الأمراض الناجمة عن هذا الانخفاض في تناول الفواكه والخضروات والبذور والمكسرات، هذه الأمراض الناجمة بسبب النقص في هذه الأطعمة هي أمراض القلب والأوعية الدموية بما في ذلك مرض نقص تروية القلب و السكتات الدماغية (الإقفارية والنزفية) وكذلك سرطان الرئة والثدي المريء والسكري، والمناطق الأكثر عرضة للزيادة بهذه الأمراض غير المعدية هي أوروبا الشرقية والوسطى وكذلك جنوب شرق آسيا.
كما ينجم عن فقدان الملقحات الأمراض المعدية والأمراض المرتبطة بسوء التغذية وبعض المغذيات الدقيقة ضرورية بالفعل للأطفال والنساء الحوامل، مثل فيتامين أ وحمض الفوليك الذي يمكن أن يؤدي تناول كميات غير كافية إلى زيادة الوفيات الناجمة عن الأمراض المعدية مثل الحصبة والإصابة بالعمى.
وستكون البلدان النامية بشكل خاص هي التي ستكون الأكثر تضرراً :إفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وجنوب آسيا ومناطق معينة في أمريكا اللاتينية.
في أوربا يتم تلقيح ما يقرب من 80% من النباتات الأوروبية عن طريق الحشرات، ومن النباتات الزهرية التي تحتاج إلى الحشرات لضمان تلقيحها وبعضها يعتمد بشكل كبير على النحل مثل: أشجار التفاح، وأشجار اللوز، أشجار الأفوكادو، وأشجار الكرز، والخيار، والبطيخ، والبصل، والفول السوداني، والقطن.

باختصار إن النحل يلعب دورا أساسيا في الزراعة، حيث يتم تلقيح أكثر من ثلاثة أرباع النباتات المزروعة أساسا الفواكه والخضروات والبذور الزيتية والمحاصيل البروتينية، ومع معدل الوفيات في أصناف النحل والتي تقدر حاليًا بما يتراوح بين 30 و35%، فإن النحل معرض لخطر الانقراض إذا لم يتم القيام بأي شيء وبعيدا عن المأساة البيئية فإن العواقب يمكن أن تكون كارثية كذلك على سكان العالم بأسره لأن النحل يعد أكبر حارس للبيئة وسلة غذاء عالمية بأقل تكلفة،
إن النحل يتعرض لتهديد كبير من المبيدات الحشرية والزراعة المكثفة والطفيليات والفطريات والفيروسات، والعوامل الكيميائية، والعوامل البيولوجية، ومنتجات وقاية النباتات للاستخدام الزراعي، الرش العشوائي للمبيدات، ومبيدات القضاء على الأعشاب الضارة، العوامل المناخية خاصة مع ارتفاع الحرارة وتوالي سنوات الجفاف، والمجال الكهربائي والمغنطيسي، ناهيك عن غزو الدبابير الآسيوية في الغرب، إنها مذبحة رهيبة لهذه الكائن الرائع، فلنتذكر أن حوالي ثلثي الغذاء المستهلك على مستوى العالم يعتمد على تلقيح المحاصيل التي يعتبر النحل العامل الرئيسي فيها، ولنتذكر المقولة غيرالمؤكدة والمخيفة التي نسبت إلى "ألبرت إينشتاين" في نهاية حياته "إذا اختفت النحلة فلن يكون أمام البشرية سوى بضع سنوات ليعيشها".

اعتمدت في هذا المقال على أطروحة دكتوراه الدولة في الصيدلة بالفرنسية تحت عنوان "اختفاء النحل ما تأثيراته علينا؟" لصاحبها "شارلوت ديبيشير"

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي