تونس/ زمن الأعاصير

الطايع الهراغي
2024 / 3 / 5

"تولّى الحجّاج العراق وهو عاقل كيس. فما زال النّاس يمدحونه حتّى صار أحمق طائشا سفيها.".
(الحسن البصري)
"أيّها النّاس، إنّ الله ملّكني رقابكم وأموالكم.فإن شئت قبضت وإن شئت بسطت".
(الخليفة المنصور)
"ألم تر أنّ الشّمس كانت سقيمة // فلمّا ولي هارون أشرق نورها"
(إبراهيم الموصلي)
"أخيرا أدركت فائدة السّلطة. فمن الآن سوف أترك العنان لنفسي لتفعل ما تريد من دود حدود....لا يوجد في امبراطوريّة روما إنسان آخر سواي...
افرحوا فقد ظهر عندكم في نهاية المطاف امبراطور سيلقّنكم دروسا في الحرّيّة".
(مسرحيّة كاليغولا لألبير كامو).

01/الهيام المرضيّ
ما قاله مالك بروسيا فريديرك الأكبر(1712/ 1786 )"لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتّفاق يرضينا جميعا. يقولون ما يشتهون وأفعل ما أشتهي" لا زال يجد له في بلدان العربان رواجا احتفاليّا خارقا للزّمان والملابسات.
المضيّ قُدما إلى الوراء برغبة جامحة،بلهفة عجيبة، بالسّرعة القصوى والاستعجال الأقصى.ذلك هو حال المشهد في تونس ما بعد الزّلزال العاصف لحدث 25 جويلية وما صحبه وتلاه من فرمانات سلطانيّة تتهاطل كالأطباق الطّائرة لسلخ كلّ مناحي الحياة (السّياسيّة والفكريّة والمجتمعيّة) وسحلها وتأبينها بإقامة صلاة الغائب عليها مع الحرص على إتقان التّشفّي من المعنيّين بالشّأن العامّ وحتّى من المعنيّين بمجرّد المتابعة.عقليّة الحاكم تفتقر(ولعلّهاغير معنيّة) إلى الحدّ الأدنى ممّا تتطلّبه الآداب السّلطانيّة من بروتوكول،إن لم تكن تتعمّد خرقه.عقليّة ثأريّة بدائيّة لا تخجل من استغلال كلّ ما يتاح لها من مناسبات وفرص للإعلان عن نفسها بتفاخر تفوح منه رائحة الانتقام التي تزكم الأنوف وأحيانا تفيض.حالة من الانفلات القصووىّ المستهتر بكلّ أبجديّات التّعاطي مع إدارة الشّأن العامّ آل أصحابها على أنفسهم بوعي أن يرسوا دعائم إنتاج الرّداءة ورسكلتها وأن يعبّدوا لها سبل الانتعاش والتّسويق والدّيمومة.وما هو مكرّس في المشهد الإعلاميّ (كواجهة) بقصديّة وبشكل ممنهج ومدروس نموذج مكتمل الأوصاف لما يراد أن يكون عليه كلّ المشهد في القادم من الأيّام والمواعيد.
وضع محكم الانغلاق، شديد الالتباس، يدفع إلى الحيرة والإرباك ،مفتوح على احتمال وحيد يتيم:المجهول.
ما قُــدِّم وسُوِّق على أنّه مشروع إنقاذ(اتّخذ له في ما بعد إسما إشهاريّا:مسار 25جويلية) وتبارت "الأمّة" مللا ونحلا، يمينا ويسارا (إلاّ من رحم ربّك ممّن كان يعنيه المحافظة على بعض الحياء)في تلميع صورته أتعس وأكثر ضبابيّة وغموضا ومأساويّة من عشريّة النّحس التي يُحسب لقياداتها أنّها لم تفلح إلاّ في تفريخ بديل جنيس من صلبها. فكان 25 جويلية.
عشريّة يُفترض أنّ الحكم الحالي قام على أنقاضها كما تلهج بذلك مجاميع"لا عودة إلى الوراء"وطوابير الشّرّاح والمفسّرين وعشائر وقبائل المساندة النّقديّة أسوة بشعار الرّئيس" في مناسبة انتخابيّة اعتدى فيها على واجب الصّمت الانتخابيّ: "قولوا نعم حتّى لا يصيب الدّولة هرم". المشهد في تونس اليوم ليس ببعيد عمّا ورد ذكره في كتب ومراجع(رغم الفاصل الزّمنيّ)عناوينها لوحدها تكفي لتمثّل سيل الفواجع وكارثيّتها:"تونس الشّهيدة" للشّيخ عبد العزيز الثّعالبي، "كتاب الاستبصار في عجائب الأمصار" لمؤلّف مرّاكشي مجهول،"عجائب الآثار في التّراجم والأخبار" المعروف اختصارا بـ"تاريخ الجبرتي" لعبد الجبّار الجبرتي،"طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" لعبد الرّحمان الكواكبي.مشهد يحيل بالضّرورة إلى توصيف ابن أبي الضّياف المختزل والدّلال لما كانت عليه البلاد لمّا كانت إيّالة في ظل حكم البايات(تونس المريضة حسّا ومعنى)،ويذكّر بما ورد في رسالة الجنرال حسين إلى محمد الصّادق باي"يا سيّدي،إنّ هذه المملكة لا قدرة لها على احتمال شيء زائد، وهي من الموجود في خطر.فحالها كحال البقرة إذا حُلب ضرعها حتّى خرج الدّم. فهي الآن ينزّ ضرعها بالدّم وولدها بمضيعة، والعطب أقرب إليها من السّلامة". الخطوب التي تتالت على تونس وتناسلت بعد الثّورة في ظلّ حكم التّرويكات المتعاقبة والمتناسلة تناسل الجوائح لتتفاقم بعد تسونامي 25 جويلية، لعلّها أن تكون نسخة أمينة ممّا أورده الجنرال حسين(1828/ 1887 )في رسالته المشهورة (1863):"طفت الممالك في أرضنا هذه وما وراء البحار. فما عثرت على مملكة قاسمتنا همومنا، ولا سمعت بأشخاص فعلوا بأهالي إيّالتهم مثلما فعلتم". الاختلاف الوحيد أنّ اللّوحة التّي ثبّتها الجنرال حسين تعود إلى أكثر من قرن ونصف.
وضع يستدعي آليّا استحضار نظيره في فداحته ممّا هو مخطوط في ما سرده مؤرّخون من مهازل عن فظاعات أزمنة غابرة خلنا أنّها باتت بحكم قانون التّقادم في عداد البليد من النّوادر من ماض بائس لوضعيّات أكثر بؤسا وأشدّ.
مشهد عجائبيّ. مزيج من مرض طفوليّة سياسيّة وقحة وسورياليّة فجّة بليدة. حالة من النّشاز ميزتها أنّه نسيج وحدها. يُحسب لها بلا منازع أنّها جمّعت ما لا يُجمّع،ألّفت وآخت بين الدّراما والكوميديا والنّكتة السّمجة. فباتت السّياسة- وليس النّاشطون السّياسيّون فحسب- في مرحلة ما بعد هبوط الوحي وتهاطله مدرارا(25 جويلية 2021) أمّ الكبائر. في قاموس الحاكم بأمره من يملك رأيا مغايرا في تسيير الشّأن المجتمعيّ ومن يتجرّأ على تبنّي نظرة مخالفة للسّياسة الرّسميّة ليس إلاّ بيدقا من بيادق منظومة الخراب، منظومة ما قبل افتتاح المسار، إن لم يكن عميلا لجهات أجنبيّة من زمرة المتآمرين على رغبة "الشّعب يريد "وعلى السّيادة الوطنيّة والأمن القوميّ ومؤسّسات الدّولة ومقدّسات الأمّة ومارقا عن إجماع متخيَّـل لصورة متخيَّلة. لعنة تلاحق من يمتّ بصلة إلى النّشاط الجادّ (الفكريّ والسّياسيّ والمجتمعيّ).
معرّة وفضيحة الفضائح ،في تونس البلد الذي كان له فضل السّبق في تدشين عهد الثّورات على الحكّام دون انتظار ثورة القصر أو ثورة القبر والإطاحة بعرش من أعتى عروش الاستبداد وفتح إمكانيّة الإنهاء مع الاستغلال والحيف والإقصاء والتّهميش، أن تصبح الممارسة السّياسيّة "فعلا موحشا" والرّأي الحرّ خيانة عظمى مدانة ما قبليّا. ولا يبقى إلاّ تلفيق التّهمة دون الشّعور بالحاجة إلى بذل أبسط مجهود لمتطلّبات ومقتضيات الإخراج.
وضعيّة هي التّطبيقة الحرفيّة لما كان تبرّم منه أبو تمام منذ قرابة الإثني عشر قرنا :"على أنّها الأيّام قد صرن كلّها// عجائب، حتّى ليس فيها عجائب".
مقاومة الفساد(أمّ المعارك في سائر المجتمعات وبالأخصّ في المجتمعات المتخلّفة)كشعار نبيل ومطلب حارق سُلخ سلخا ومُسخ حتّى بات نكتة سمجة وأضحوكة مبكيّة. لوحة استعراض بحثا عن شعبويّة هي ميزة كل مبتدئ قادته الصّدفة إلى أن يكون وافدا على عالم السّياسة في أرذل مراحل العمر. مطيّة لكلّ ضروب وأنماط الفساد. فباسمه،بإدخاله بيت الطّاعة، بإخضاعه إلى عمليّة غسيل وبممارسة نقيضه تُمرّر كلّ سياسات الاستئصال والتّصحير ورسكلة القديم وتُكرّس ما تلكّأت الحكومات السّابقة، لأسباب متداخلة، في تكريسه. في تشفّ مربك ومحيّر لا يمكن إلاّ أن يكون ترجمة وفيّة ونتاجا لعقدة(عقدة الغياب والتّغيّب عن التّاريخ حتّى البائس منه )، تحوّلت نزعة الانتقام من التّاريخ-أحداثا وسرديّات وتصوّرا- إلى هيام مرضيّ وهذيان هيستيريّ ورغبة جامحة في اختراق كلّ الضّوابط .إنّه الهوس بوهم صنع تاريخ مغاير لما ألفته البشريّة وعلى أنقاضه،صاحبه أسير تصوّر هلاميّ يسبح في سابع سماء عن بدعة المهديّ المنتظر الذي سيُبعث يوما ما ليملأ الأرض قسطا وعدلا بعد أن فاضت ظلما وجورا.
عقليّة الفرقة النّاجية التي تخضع وجوبا لزعيم يعتقد أنّه منقذ ملهم، مكلّف من العناية الإلهية ليهدي القوم الضّالّين.
والواقع أنّ الأمر ليس بغريب مهما بدا خارقا حتّى لعالم اللاّمعقول.فحالة الرّدّة المحيّرة التي تخيّم على تونس مردّها انتصاب حكم مغلق أقصى حلمه أن يمحو التّاريخ بان ينتقم حاكمه لنفسه من عقدة غياب اختياريّ بفرض حضور قسريّ ليؤسّس بذلك لسرديّة تفصلها مسافة ضوئيّة عن الواقع وغريبة كلّ الغرابة عن اللّحظة.سرديّة التّصحير والاستعداء ولوي عنق التّاريخ ليتماهى مع الأوهام وينصهر في عالم اللاّمعقول. سرديّة خلق فكر قطيعيّ بقريّ لا وجود في قاموسه لما تمليه حكمة وحنكة السّياسة على رجل السّياسة من الانتباه لمتطلبات الإكراهات ولا مجال للبراغماتيّة في عالم تفكيره (إن كان له تفكير). كلّ الدّلائل تشير إلى حالة من الانتظاريّة المربكة والعطالة الفكريّة التي تعوّض البحث عن حلول بخطاب خشبيّ، رهانه أن يدغدغ العواطف ويبتزّ أصحابها ويبلّد الذّهن ويعتدي عليه.
تونس اليوم حالها أتعس ممّا كانت عليه السّلطنة العثمانيّة(التي صحّ فيها لقب الرّجل المريض) من وهن حتّم استباحتها من القوى الاستعماريّة فتكالبت على إيّالاتها وبإذلال. تونس منكوبة بمن يحكمها، ومنكوبة بنخبتها. باتت مرتعا لكلّ ما هو تافه وهجين. لا وجود لدولة. وإذا سلّمنا جدلا بجودها فالشّأن العامّ غير منزّل في جدول أعمالها.هشاشتها وتصالحها مع البلادة في كل مناحيها يبيح كلّ هجانة وانفلات بقريّ .
أليس من مهازل التّاريخ ونوادره أن يُبعث لويس الرّابع عشر- صاحب مقولة "آه.إذا لم أكن ملكا فسوف أفقد أعصابي"- حيّا في ربوعنا بعد أكثر من ثلاثة قرون على وفاته ؟؟

02/ ومن العشق ما قتل
"من يهن يسهل الهوان عليه".التّزلّف عندما يتمكّن من صاحبه ليصبح مهمّة وخبزا يوميّا يتحوّل إلى مرض عضال، ديدنه أن يبخس الذات حقّها مرّتين.مرّة بإعلاء الآخر وإكسابه ما ليس فيه بتأليهه وتنزيهه عن كلّ الصّفات الآدميّة وتلبيسه عوضا عنها معجزات ربوبيّة. ومرة بالحطّ من قيمة الذّات بإكسائها ثوب الذلّ والصّغار على أنّه حلّة المجد والإكبار .
للتّزلّف المحيّن لما تقتضيه متطلّبات الآن وشائج كثيرة ومتنوعّة تشدّه إلى تراث عريق فيه من الاحتفال بالاستهتار وبالعبث ما يعمي البصيرة وليس فقط البصر.دشّنه وعّاظ سلاطين مهمّتهم تجميل القبيح وأبلسة الجمال.
من حقّ مداحي آخر زمان أن نقدّم لهم أحرّ التّعازي. فقد أتوا الزّمان في آخره.فهم ليسوا إلاّ تلامذة تابعين لا مبدعين. فقد سبقهم إلى المدائح والأذكار جهابذة أكثر منهم تفنّنا في حبكها .
دونكم هذه العيّنات ممّا يزخر به تراثنا حديثه وقديمه:
++الرّئيس ما فمّاش واحد كيفو( لا مثيل له/ نسيج وحده).هكذا صرّح أحمد الحشّاني رئيس حكومة الرّئيس قيس سعيّد في إحدى مناسبات العودة المدرسيّة في لحظة زهو وتماه منفلت وعشق صوفيّ أملته الرّغبة في التّجاهر والتّفاخر بالولاء وليس المناسبة. تصريح ليس ببعيد عمّا كان لهج به ابن هاني الأندلسيّ في مدحه للمعزّ لدين الله الفاطمي:
"ما شئت لا ما شاءت الاقدار // فاحكم. فانت الواحد القهّار
وكأنّما أنت النّبيّ محمد // وكأنّما أنصارك الأنصار.
أنت الذي كانت تبشّرنا به// في كتْبها الأحبار والأخبار".
++ أحد النّشطاء السّياسيّين (من ذوي الميول اليساريّة سابقا) يكتب بكامل الوثوقيّة :"25 جويلية في عمقه جاء لبناء أسس مرحلة جديدة تتحدّد فيها الأدوار والوظائف والمهامّ ".أكاد أجزم أنّ صانع الحدث نفسه لو سئل عمّا أتاه صبيحة25 جويلية لما امتلك القدرة على استحضار خطاب بمثل هذا التّملّق.فما كان إجراء سلطويّا حتّمته معطيات متشابكة أهمّها استحالة تواصل تعايش الضّرائر(الرّئاسة والبرلمان أساسا) وتمّ تنفيذه استنادا إلى تأويل دستوريّ لنصّ دستوريّ بات بقدرة قادر مشروعا لبناء مرحلة جديدة.ما اعتبره البعض لحظة وجب استغلالها لرسم مسار ودفعها إلى أقصاها لا يُرضي نهم المدّاحين وشراهتهم.فصاحب الحدث(يكفي أنّه رئيس جمهوريّة)لا يليق به إلاّ أن يكون صاحب تصوّر ومشروع. ألسنا بالفعل في رحاب جوقة بن علي:" أحد أحد بن علي ما كيفو حد"؟؟ .
++ أصيبت مصر بزلزال في عهد المماليك. فلم يجد الشّاعر محمّد بن عاصم بدّا من مدح حاكمها في مناسبة تملي تقديم التّعازي والمواساة:" وما زُلزِلت مصر من كيد ألمّ بها// ولكنّها رقصت على أنغامكم طربا" .
++ رمى الخليفة المتوكّل عصفورا فلم يصبه. فقال وزيره:أحسنت.فردّ الخليفة :أتهزأ بي؟؟فقال الوزير: لقد أحسنت إلى العصفور عندما تركت له فرصة الحياة .
وآخر الكلام: "نيرون مات، ولم تمت روما
بعينيها تقاتل"( محمود دريش).

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي