|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
نايف سلوم
2024 / 2 / 14
التمساح (Krocodil) ظهرت في "مجلة العصر" التي أصدرها دوستويفسكي، العدد الثاني من سنة 1865، ولم تكتمل بسبب احتجاب هذه المجلة.
والقصة موضوع القراءة تتحدث عن "حادثة خارقة" أو "مُعْجِزة"
وهذه الحادثة الخارقة هي عين القصة الحقيقية التي تروي كيف أن سيداً متقدماً في السن محترماً جداً قد ابتلعه، وهو حيّ، "تمساح الممر" وما الذي نشأ عن ذلك
وهذه العبارة المُشدّدة بخط، تحمل رائحة سرد الدون كيشوت لميغيل دي سرفانتيس.
لقد كتبت القصة إذن في "مجلة العصر": العصر والمعاصر والشاهد والخابر. قال محي الدين بن عربي في "خطبة الفتوحات المكيّة": "فلولا العصر والمعاصر، والجاهل والخابر، ما عرف أحد معنى اسمه الأول والآخر، ولا الباطن والظاهر." (الفتوحات المكيّة-السفر الأول)
وأقول لكم: المعنى معاصر دائماً لأن الحق قائم أبداً، وأوان العصر هو أوان القيامة والظهور. وقد أقسم به القرآن تكريماً له بقوله: (وَالْعَصْرِ) [العصر: 1]
وأقول لكم: لكن، لماذا علىَّ أن أربط بين لا مبير وبين الشيخوخة وكبار السن؟ وأنا أعتقد أن "لا مبير" ليس سوى مصباح كهرابي فارغ من الهواء.
القصة حقيقية، بمعنى أنها حدثت في عصرنا، العصر البورجوازي الليبرالي. والقصة جرت في وضح النهار وبدء العصر، كأنها ظهور مُعْجِز (مُعجزة) في بداية 1865 في 13 يناير.
والرقم (13) كون كامل، أي عصر كامل، لأنّ كلمة (كون) في حساب الجزم الكبير تساوي 20+6+50= 76= 13. والقصة مُكوّنة من أربعة فصول، حيث 13= 4 بالجمع الافقي.
وقد يدل هذا الرقم الكونيّ (13) على الشؤم واللعنة والاعدام، لذلك توجد شعوب تتهيبه. فهو المعادل الرقمي للصليب.
تحكي القصة: "لقد كان في جيبه تذكرة سفر إلى الخارج بالقطار، كان يريد أن يقوم بهذه الرحلة لأنه يشتهي أن يرى أشياء جديدة، لا لأنه يريد العلاج من مرض" إنه فضول "العالم" المتقدم بالسن تجاه الأشياء الجديدة، وليس حكم الضرورة؛ فضول تجاه البورجوازية الليبرالية. يقول الراوي: "لم يعارض أية معارضة في إرضاء حب الاطلاع الشديد الذي استبد بنفس امرأته، لأنه كان يشاطرها حب الاطلاع هذا في حقيقة الامر". والفضولي من يتدخل بما لا يعنيه، أو يقفو بما ليس له به علم. وبدل أن يرى البورجوازيين الليبراليين في رحلته للخارج، حاول ان يراهم في داخل بلاده عبر "الاستثمارات الأجنبية وشركاتها" ومشاهدة التمساح. قال إيفان ماتفئتش: "ففي الوقت الذي نستعد فيه لرحلة إلى الخارج، لا يكون من غير المستحسن أن نطّلع منذ الآن في بلادنا نفسها على السكان الأصليين لتلك البلاد"، أي أن نطّلع على النسخة الأصلية.
يقول الراوي (سيمون سيميوفتش): "وقد شاركتهما هذه النزهة بصفتي صديق للأسرة، عملاً بعادة ألِفناها".
يشير الراوي إلى إعجاب إيفان الشديد بالمكان وعظمته، والحماس الشديد له، أي الحماس "للممر" حيث تتموضع الاستثمارات الأجنبية، خاصة الألمانية منها.
إن إعجاب إيفان ماتفئتش بالبورجوازية الليبرالية أو الغرب البورجوازي الليبرالي شديد لدرجة الدهشة والاحساس بعظمة ما يعاصره. يقول الراوي: "ما أن دخل إيفان ماتفئتش "الممرّ" حتى شعر بنشوة عظيمة، وأحس بإعجاب شديد حين رأى عظمة المكان"، لدرجة أنه أظهر كرماً غير معتاد عليه (وهو المقتِّر).
وحتى يشير دوستويفسكي كناية إلى ولع إيفان البورجوازي الصغير "العالِم" المتقدم في السن بتقليد الغرب الليبرالي البورجوازي، فقد أضاف إلى وجود التمساح الببغاوات والقرود. إنه يحاول محاكاة الغرب كببغاء أو قرد يقلد حركات الانسان. أما التمساح فهو كناية عن المستثمر الأجنبي (ألماني، إنكليزي، فرنسي، سويسري) بالأخص ألماني. فحين يتحدث الكاتب عن التمساح في الحوض يعبّر على الشكل التالي: "كان هذا الحوض (الممرّ) مسكناً لتمساح كبير (مستثمر أجنبي كبير) قد رقد فيه جامداً لا يتحرك أكثر مما تتحرك صقالة خشبية، وكأنه قد فقد جميع قواه الطبيعية منذ أصبح يعيش في جونا الرطب الذي لا يناسب الأجانب البتة"، فإنما ليشير إلى عدم تناسب البورجوازية الليبرالية مع ظروف التأخر والتخلف الروسية، ومع وجود أغلبية فلاحية مفقرة وجاهلة وأميّة.
وكان هذا النمط من الاستثمار الأجنبي شائعاً في روسيا. وقد قرأنا عنه في كتاب "التخلف والتنمية" لألبرتيني. نقرأ في القسم الأول من الفصل الثاني (السيطرة من خلال دفوق الرساميل)، وتحت عنوان "دفوق الرساميل الخاصة": "ثمة نوعان من الرساميل الخاصة: الاستثمارات المباشرة والتوظيفات النقدية. تتألف الأولى من الاستثمارات المباشرة التي تحققها المؤسسات الأجنبية (التماسيح) التي تقوم بإنشاء المشاريع أو توسيعها. أما الثانية فتتألف من الأموال التي تأتي للتوظيف في البلد (الاجنبي). لقد أصاب النوع الثاني رواجاً كبيراً طوال القرن التاسع عشر؛ كان المُدّخر الأوروبي (الغربي) يوظف أمواله في المشروعات الأجنبية أو يقرضها للدول الأجنبية (القروض الممنوحة لروسيا، وقروض للإمبراطورية العثمانية)". وكما ورد في بداية القصة، فأحداثها تجري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بالتحديد بداية سنة 1865.
"وحتى عام 1939 (قبيل الحرب العالمية الثانية) كانت الاستثمارات المباشرة والتوظيفات النقدية تؤلف الطريقة الرئيسية لتمويل الاستثمارات في البلدان المتخلفة" (التخلف والتنمية)
نعود إلى قصتنا: "كان (المستثمر) صاحب التمساح، وهو رجل ألماني، قد جاء يقف امامنا وينظر إلينا في زهُوّ وعُجْب وكبرياء ". يقول الراوي: "همس إيفان في اذني يقول: من حقه أن يشعر بكبرياء، لأنه يعرف أن (المستثمر الاجنبي) الوحيد الذي يعرض على الناس تمساحاً في روسيا". نلاحظ هنا انسحاق البورجوازي الصغير "العالِم" تجاه مستثمر أجنبي صاحب شركة كبرى. لأنه بالمقارنة مع رأي زوجته المعاكس يظهر ذلك، خاصة وأن المستثمر رجل عملي، لا رجل تظاهر وتنفّج وفخفخة، حيث النساء تحب المتظاهر الانيق الدون جوان المرصع بالجواهر، أكثر من المستثمر العملي، تقول زوجة إيفان ماتفئتش إلينا إيفانوفنا بلهجة ممطوطة تعبر عن خيبة الامل: "أهذا هو التمساح؟ إنني لم أكن اتخيله في هذه الصورة! " يُعلق الراوي: "أغلب الظن أنها كانت تحسب التمساح جواهر ماس".
إن حديث إيفان إلى زوجنه والقائل: لا تخشي شيئاً يا عزيزتي. إن هذا الساكن الوسنان من سكان مملكة الفراعنة لن يلحق بنا أي أذى" يشير إلى أثر الثقافة المصرية القديمة (الفرعونية) عند دوستويفسكي، حيث يظهر التمساح وحدة نقائض، فهو إله خيّر أحياناً وشيطان شرير أحياناً أخرى. "
"ففي كتابات المصريين القدماء الدينية، نجد أن التماسيح تلعب دورًا متناقضًا: وكما نجد أن التمساح يمكن أن يُعبّر عن الإله الصالح "أوزوريس" ، فهو في نفس الوقت يُعبّر عن أخيه الشرير "سِت". وأيضًا يمكن أن يُمثل الإله "رع"، والإله "حب" (جِبْ). فنجد أن التمساح يُعبد باسم الإله "سوبك"، خاصة في كوم أمبو والفيوم، وإن كانت مومياوات التماسيح المحنطة التي ظهرت، تكشف عن عبادة التمساح في كل بقاع مصر. وأيضًا نجد أنه يمكن اصطياده ومطاردته." (موقع الأنبا تقلا)
وهنا يظهر التمساح كناية عن شيطان الشركات الأجنبية المسيطرة في روسيا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، الشيطان الذي يلتهم ويخضع حياة الناس الفضوليين المتظاهرين البورجوازيين الليبراليين الصغار التافهين المتبجحين "العلماء" الوضعيين على شاكلة إيفان ماتفئتش. وتظهر البنية الرأسمالية متناقضة، واحد من "العلماء" يكيل لها المديح وآخر يهجوها ويطاردها.
فـ "في الوقت الذي يُظهر فيه المصريون القدماء رغبتهم في أن يتحولوا إلى تماسيح بعد الموت، نجد أن التمساح الذي يُمثل الشيطان يلتهم أو يفني أرواح الأموات الذين لم يعيشوا حياة طاهرة أو فاضلة" (الانبا تقلا)
ويشير هيرودوت Herodotus إلى أن بعض المصريين القدماء يعتبرون التمساح مقدسًا، وآخرون يهاجمونه. أحيانًا يعاملونه بتكريم زائد ويقدمون له أسماك وأطعمة ثمينة، ويزينون رأسه بأقراط وقدميه بأساور وحلقان ذهبية مطعمة بحجارة ثمينة، ويروضون صغاره بلطف شديد، وبعد موته يطيبونه بأطياب ثمينة، هذا في مناطق طيبة والفيوم. وفي مناطق أخرى يتعاملون معه بشيء من الاشمئزاز الشديد، فلا يتركون فرصة يمكنهم فيها تدميره." (الانبا تقلا)
تكتب صحيفة "اليوم السابع": "كشفت دراسة حديثة أن المصريين القدماء استطاعوا تحنيط الحيوانات سواء القطط أو القرود وأيضًا التماسيح، حيث يعتقد الخبراء أن ذلك كان من ضمن الطقوس التي استخدمها المصريون القدماء لاسترضاء المعبود "سُوبُك" المرتبط بتماسيح النيل وكان "يصور إما على شكل تمساح أو إنسان برأس تمساح". (اليوم السابع)
"سوبيك أو سُوبِك (زوبُك) أو سُبِك (كما يمكن نطق اسمه: سِبِك، سوخت، سوبكي)، هو إله مصري قديم، مع طبيعة (متناقضة) متعددة الجوانب، فهو إله مرتبط بتماسيح النيل، ويمثّل صورياً إما في شكل التمساح أو في شكل إنسان برأس التمساح." (الموسوعة الحرة)
ولـ "عزيز نيسن" الكاتب التركي الساخر رواية بعنوان "زوبك" يسخر فيها من تناقضات المجتمع التركي، كمجتمع متخلف. يقول في صدرها: "لقد وقع ظل العربة على ظل الكلب، فظن الكلب أن ظل العربة هو ظله" وهذا ما حصل لبطلنا إيفان ماتفئتش في تقمصه لليبرالية البورجوازية الغربية الآفلة.
إن اكتشاف إلينا إيفانوفنا - وهي تتسلى برؤية القرود- تشابهات بين هذا وذاك من هذه الحيوانات وبين فلان وعلان من أصدقائها" يشير إلى تلميح دويسويفسكي إلى انمساخ بعض البشر بسبب "الفضول" وتحولهم إلى قرود وخنازير. إن " "كلمة تمساح في اللغة المصرية القديمة هي (مَسحْ) msh، وقد تطورت إلى تمساح في اللغة العربية. " وهنا نلاحظ وجود مقابلة ضمنية لدى دوستويفسكي بين (مَسحْ) و(مَسخْ)، والمسيح هو الممسوح بالزيت المقدس، والمسيخ هو الممسوخ بالفضول وغيره. إنه التناقض بين (أوزوريس) المسيح، و(سِت) الشيطان، المسيخ.
ثم حدثت المُعجزة "الخارقة للطبيعة". يقول الراوي: "في تلك اللحظة بعينها دوّت في القاعة صرخة رهيبة، بل صرخة يمكن أن أصفها بأنها خارقة للطبيعة. وإذا لم أعرف كيف أفكر ولا ماذا أقدر، فقد لبثت متجمداً في مكاني، حتى إذا رأيت إلينا إيفانوفنا تصرخ هي أيضاً، أسرعت التفت، فماذا رأيت؟"
إن الانمساخ حدث "خارق للطبيعة" لا يمكن للعقل الطبيعي الاستدلالي الوضعي أن يستوعبه. كما أن الانمساخ يترافق بالتجمّد والشلل وتحجر القلب الإنساني بحيث يتحول الفرد إلى حيوان أو تمساح. ويقال بالعامية لمثل هؤلاء: "متمسح"، أي من دون قلب أو إحساس.
يتهكّم دوستويفسكي تجاه أصحاب الفكر الاقتصادي والفلسفي العقلاني الوضعي من "العلماء" في روسيا بطريقة مدهشة، حيث لا يُقر هؤلاء إلا بما هو "واقعي" محسوس، وينفرون من الفكر القصصي (الميتوسي) المجازي الكنائي، ومن الأشياء غير المرئية. نقرأ في القصّة على لسان الراوي: "ولكن فلنمض إلى الوقائع: رأيت التمساح يحرك فكيه الرهيبين ببراعة وحذق، فيشد إليه في أول الامر قدمي المسكين إيفان ماتفئتش، ثم رأيته يسمح له بأن يفلت قليلا، لأن صديقي العالم كان يحاول أن ينجو وكان يتشبث بالحوض". ويضيف: "وكدت أصرخ أنا أيضاً لولا أن القدر شاء أن يبذل التمساح جهداً آخر-ولعله فعل ذلك لتضايقه من ضخامة لقمة الغذاء هذه التي لم يألف مثلها- فإذا هو يفتح فمه الفظيع مرة أخرى، وإذا نحن نستطيع أن نرى وجه قريبي العزيز المصاب الذي سقطت نظارتاه في بحيرة الماء وغارتا إلى القاع " .
إن قوله: "ولعله فعل ذلك لتضايقه من ضخامة لقمة الغذاء هذه التي لم يألف مثلها" تشير بشكل تهكّمي ساخر إلى "العلماء" الوضعيين البورجوازيين الليبراليين الروس وغيرهم في البلدان المتخلفة، الذين لا يمكن هضمهم حتى من تمساح! هؤلاء المبهورون بالفكر البورجوازي الليبرالي الذي فات أوانه. وكنا قد لاحظنا في كتاب "التخلف والتنمية" فوات "المخطط الليبرالي للتنمية وفشله". نقرأ في الكتاب، الباب الرابع، الفصل الثاني: "إخفاق المخطط الليبرالي: من التبعية إلى التضخم: اخفاق الدوافع الخارجية والدوافع الداخلية: "إن آليات السيطرة بواسطة التجارة الخارجية، كافية لتفسير إخفاق الدوافع الخارجية. وينسى الليبراليون أن المبادلة لا تجري بين طرفين متكافئين". ويضيف الكاتب: "يرتبط إخفاق الدوافع الداخلية بظاهرة التخلُّع والسيطرة. والحقيقة أن تخلّع القطاع التقليدي وعدم تكيف القطاع الحديث في الاقتصاد يُجمّد الآثار المحرضة للاستثمار (كما تجمدت إلينا إيفانوفنا من الدهشة). وبدلاً من أن تضاعف هذه الآثار الدخول، فإنها تضاعف الأسعار؛ وهذا هو التضخم (الذي نشببه الآن بارتفاع الاسعار)”.
وفي براعة تهكمية من دوستويفسكي وعلى لسان الراوي، تجاه الرؤوس البورجوازية الليبرالية الوضعية الفائتة يقول: "لكأن هذا الرأس لم يعد إلى الظهور إلا ليلقي نظرة أخيرة على أشياء هذه الأرض وأن يودع أفراح الحياة آخر وداع". إنها شهقة الموت الأخيرة لهذا الفكر الليبرالي الوضعي المبتذل، المأخوذ بتقليد الغرب البورجوازي الليبرالي تقليداً أعمى، يفتقد لكل حس نقدي. "لكن رأس قريبي لم يستطع حتى أن يحقق هذا الهدف، فإن التمساح سرعان ما استرد عزيمته، وبذل كل ما يستطيع من جهد، فإذا بالرأس يختفي إلى الابد “.
إن أي عودة محتملة لمثل هذه الرؤوس "العلمية" الزائفة لن تكون أكثر من مسوخ شنيعة، لا يمكن النظر إليها إلا بقرف واشمئزاز. يقول الراوي: "إن عودة هذا الرأس الإنساني إلى الظهور حياً، في أغلب الظن، منظر رهيب شنيع". ويقول موضحاً سر التهكم وموضعه: "ومع هذا فقد كان في هذا كله – ترى أهي سرعة الاخفاء أم سقوط النظارتين-أقول لقد كان في هذا كله عنصر يبلغ من قوة الاضحاك أنني لم أستطع إلا أن أنفجر ضاحكاً. ولكنني إذ لاحظت أن الضحك في لحظة كهذه اللحظة خال من الاحتشام –ألستُ صديق الأسرة؟ - أسرعت أهتف قائلاً لإيلينا إيفانوفنا في تعاطف حزين: ضاع عزيزنا إيفان ماتفئتش!"
وللتقدير المبالغ فيه من قبل الألماني وأمّه لـ "ضخامة" الموظف الروسي "العالِم" و"لوزنه" الكبير، فقد خشيا أن يسبب للشركة الأجنبية المستثمرة مشاكل قد تؤدي بعد دخوله إليها، إلى انفجارها. إن خطره بسبب "وزنه" العلمي و"حجمه" الاجتماعي كبير على المؤسسات المستثمرة الأجنبية. يقول الراوي بخصوص الألمانيين: "وهما يبكيان على طول الحوض كما يبكي عجلان: لقد هلك (التمساح)! سوف ينفجر بين لحظة وأخرى! بلع موظف بكامله“. وهذا أيضاً ضرب من تهكم دوستويفسكي على "ضخامة" و"خطر" الموظف الروسي.
يتحدث دوستويفسكي على لسان الراوي بسخرية واضحة عن الثقافة السائدة في روسيا في تلك الفترة، وفي ذلك المكان "الممرّ" أو مناطق الاستثمار الأجنبي، والتي تُحرّم الدعوة لمناهضة لمثل هذه الاستثمارات الأجنبية والقضاء عليها، وتعتبرها خطوة رجعية ضد التقدم والحداثة. يقول متهكما ساخراً على لسان الراوي: "نظرت إلى الباب خلسة وأنا أشعر بشيء من الخجل والاضراب، ثم توسلت إلى إيلينا إيفانوفنا أن تهدّئ روعها، وألا تستعمل خاصة تلك الكلمة الفاضحة: "اقتلوه"، لأن الإفصاح عن رغبة رجعية إلى هذا الحد ، في مكان كهذا المكان، وسط "الممر" ، بين أناس مثقفين ، على بعد خطوتين من القاعة ، التي يلقي بها السيد لافروف محاضرته العامة في هذه اللحظة نفسها، إن الإفصاح عن مثل هذه الرغبة الرجعية في ظروف كهذه الظروف ليس أمراً غير معقول فحسب، بل هو أمر غير مقبول أيضاً. إن من الممكن أن يجلب لنا الإفصاح عن هذه الرغبة الرجعية سياط النقد اللاذعة يلهب بها السيد ستيبانوف ظَهْرينا".
"كان "الممر" بمدينة بطرس برغ يضم متاجر، وكذلك قاعات للموسيقى والمحاضرات والمعارض. أما لافروف هذا فهو بطرس لافروف (1832-1890): ناقد وضعي ألقى سنة 1860 ثلاث محاضرات عن أهمية "الفلسفة الحديثة" الوضعية. أما نيكولاي ستيبانوف (1807-1877): فهو رسام كاريكاتوري، ومحرر في جرائد هجائية كـ جريدة "الشرارة" و "اليقظة"
و"الفلسفات الوضعية هي الفلسفات المهتمة بالعلوم التي تستند إلى رأي يقول إنه في مجال العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعية، فإن المعرفة لحقيقية هي المعرفة والبيانات المستمدة من التجربة الحسية، والمعالجات المنطقية والرياضية لمثل هذه البيانات والتي تعتمد على الظواهر الطبيعية الحسية وخصائصها والعلاقات بينها والتي يمكن التحقق منها من خلال الأبحاث والأدلة التجريبية. نشأت هذه الفلسفات كنقيض لعلوم اللاهوت والميتافيزيقا اللذين يعتمدان المعرفة الاعتقادية غير المبرهنة، وعلى القطعية والرأي القطعي.
وضع الفيلسوف والعالم الاجتماعي الفرنسي الشهير أوغست كونت مصطلح الوضعية في القرن التاسع عشر وهو يعتقد بأن العالم سيصل إلی مرحلة من الفكر والثقافة سوف تنفي كل القضايا الدينية والفلسفية وسوف تبقى القضايا "العلمية" التي أثبتت بالحس والخبرة الحسية أو بالقطعية والوضعية.”.
والمفارقة التي تحملها الوضعية أنها رغم مناهضتها للاعتقاد الديني الدوغمائي الوظيفي وللقطعية الميتافيزيقية غير الديالكتيكية، فهي تقع من جديد في ضرب من القطعية العلموية، ومن الدوغما العلموية. كما أنها لا تعير بالاً للأشياء اللامرئية ولا للتحولات الكيفية أو النوعية التي تفترض قوة النفي او السلب، ولا للتحول من نقيض إلى آخر في سياق وحدة وصراع الاضداد. لقد وصف انجلز في (أنتي دوهرنغ) الميتافيزيقا بأنها مناهضة للديالكتيك. والوضعية ليست أكثر من ميتافيزيقا علموية متبجحة ومغتبطة “بانتصاراتها المذهلة" الكاذبة. ليست الوضعية سوى ضرب من فلسفة علوم وضعية تجريبية، وقد ساد هذا التيار الفلسفي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين في أوربا الغربية ممتداً إلى روسيا. وهو تعبير فلسفي عن أزمة تاريخية للأيديولوجية البورجوازية الليبرالية، وعن انحطاط البورجوازية كطبقة عالمية تاريخية.
يقول الراوي: وسرعان ما صدقت مخاوفي من سوء الحظ. فها هو ذا الباب الذي يغلق الغرفة التي يعرض فيها التمساح، ها هو ذا يُشقّ، فيظهر على العتبة شخص له لحية وشاربان، ويحمل قبعته بيده. وها هو ذا يقول وهو يبذل جهوداً عظيمة في سبيل المحافظة على توازنه، لإبقاء جذعه في الغرفة التي نحن فيها مع إبقاء قدميه في الدهليز: "يا سيدتي، إن هذه الرغبة الرجعية التي تجيش في نفسك لا تُشرّف عقلك وذكائك، ولا يمكن إلا أن تكون ثمرة نقص في فوسفور دماغك. لسوف تظلين مزدراة محتقرة في مجلة "وقائع التقدم"، وكذلك في صحائفنا الهجائية النقدية". و "الفوسفور عنصر أساسي يوجد في كل خلية من خلايا الدماغ وكذلك في الوسط المحيط بها، وهذا دليل قوي على أهمية هذا المعدن لعمل الدماغ، من هنا فإن تأمين كميات وافية منه يضمن سلامة الدماغ، وقيامه بوظائفه المعرفية، والوقاية من خطر التعرض لبعض الأمراض مثل داء الزهايمر" (الموسوعة الحرة)
لقد اشتهر دوستويفسكي بحواراته على العتبة، وهي تشير إلى نسبية الأفكار المتصارعة والمتحاورة، وأنها لا تملك اليقين بعد، بحيث تعفي نفسها من الحسّ المماحك. كما أن الحقيقة بالنسبة لكاتبنا قائمة في حوار الآراء والأفكار، لا في رأي واحد معزول.
بالطبع لن يستطيع أي مواطن روسي أن يحطم وجود استثمار أجنبي بمفرده، خاصة وأن الامر يعود إلى الحكومة الروسية. من هنا نفهم قول إيفان ماتفئتش وهو يتحدث من القاعة الداخلية للتمساح: "في رأيي أن تستعينوا بالشرطة، لأن تدخل القوة الحكومية يستطيع وحده اقناع هذا الألماني".
يسخر دوستويفسكي مرة أخرى من صديقه "العالِم" ومن قوته وصلابته وبديهته الحاضرة الخارقة، ومن اعجابه الذليل بالاستثمار الأجنبي، وهو حبيس أفكاره واعتقاداته هذه. هذه السخرية تأتي على لسان الراوي حيث يقول: "إن هذه الكلمات التي نطق بها إيفان ماتفئتش بقوة وصلابة والتي تدل أن له بديهة حاضرة خارقة، قد بلغت من إدهاشنا وإذهالنا أننا لم نشأ في اللحظة الأولى أن نصدق آذاننا. وأخذنا نصغي إلى كلام السجين المسكين بانتباه شديد وإن كان يخالطه شيء من شك وريب" . وأقول "السجين" لأنه حبيس أوهامه الليبرالية، وحبيس العقد الذي وقعه مع الشركة الأجنبية.
وباعتبار إيفان قد أصابه تحول أو انمساخ بفعل فضوله وتقليده الاعمى للغرب الرأسمالي الليبرالي، أي بفعل ابتلاع التمساح له، لم يعد صوته يُعبّر عن مشاكل روسية قحّة كمشكلة الفلاحين والمسألة الزراعية في روسيا. ولو تكلّم في "الفلسفة الحديثة" والاقتصاد السياسي لروسيا في النصف الثاني للقرن التاسع عشر، لأثار ابتسامة وسخرية الفلاحين الروس، بفعل خديعة لم تخدع أحداً إلا هو نفسه. فهو "المخادع الذي لا يخدع". لهذا نجد الراوي يقول: "كان في صوته تحوّل، كأنه آت من مكان بعيد جداً (ربما من أوروبا الغربية) أو كأنه صوت رجل ممازح تربّص في الغرفة المجاورة ووضع فمه على وسادة وأخذ يصيح مقلداً صوت اثنين من الفلاحين يتخاطبان عبر واد من الوديان ليخدع بذلك جمهوراً موجوداً في الغرفة الأخرى. وتلك لعبة أتيح لي أن أشهدها ذات مرة أثناء عيد الميلاد عند أناس من أصدقائي" .
بالطبع لم يكن الانمساخ أو التحول كاملا، كان إيفان ماتفئتش يقف على عتبة الانمساخ، حيث ما يزال للأيديولوجية الليبرالية البورجوازية بعض صدى، لأنه بقي بعض من صوته على شكل غمغمة وهمهمة، لكن الامر الأساسي هنا هو أن صوته قد تشوّه وجرى كبته لدرجة يمكن له أن يخدع من يستمع إليه. لكن كيف لصوت مشوّه ومكبوت أن يخدع المستمعين؟ إنه بالطبع لن يخدع سوى صاحبه، "العالِم" الاقتصادي والفيلسوف الوضعي.
إن خداعه لنفسه يظهر في اعتقاده أنه ما يزال حياً، ولم يمت. هذا ما ظهر في حديثه مع زوجته.
(تمتمت إلينا إيفانوفنا تسأله)
-إيفان ماتفئتش، صديقي، أأنت حي إذن؟
(فأجابها إيفان ماتفئتش)
-نعم، أنا حي، وعلى أحسن ما يرام من الصحة والعافية؛ فبفضل رعاية الله وحمايته، بلعني التمساح دون أن يلحق بي أي خراب" .
لقد حصل إيفان على جواز سفر للخارج، وبدل السفر التحق بشركة استثمارات ألمانية في روسيا. إنه قلق من أن يسيء رؤساءه فهمه، باعتبار سلوكه الملتوي هذا نوع من خديعة. يقول إيفان لزوجته: “شيء واحد يقلقني: كيف سينظر رؤسائي إلى هذا الامر، وكيف عساهم يواجهونه؟ ذلك أنني حصلت على جواز سفر إلى الخارج، وها أنا الآن في جوف تمساح، دون أن يكون ذلك مني مكر أو خديعة" .
ما تزال إلينا تعتقد أن زوجها قد دخل مؤسسة الاستثمار رغماً عنه، بينما هو في الواقع دخل برغبة منه وفضول. تقول إلينا: ليس مهماً أن يكون في ذلك مكر، وإنما المهم إخراجك!
وجاء الرد من صاحب التمساح الذي لا مصلحة له بإخراج إيفان لأن دخوله في التمساح يجلب له المزيد من الأرباح والمكاسب؛ فدخول الحمام ليس كالخروج منه. يقول صاحب التمساح: إخراجه؟ لن أسمح لأحد بأن يمس تمساحي. سوف يتكاثر الجمهور بعد الان تكاثراً عظيماً. لن يكون كارل بحاجة إلى طعام." .
وأميل هنا إلى الاعتقاد بان اسم التمساح (كارل) مشتق من اسم الشركة الاحتكارية العملاقة (كارتل)، حيث " كارتل (Cartel): كلمة أو مصطلح لاتيني مشتق من كلمة (Charta) اللاتينية والتي تعني الميثاق. ويعرف الكارتل، أنه اتفاق غالبا ما يكون مكتوبا بين عدد من المشاريع تنتمي إلى فرع معين من فروع الإنتاج لأجل تقسيم الأسواق، أو تنظيم المنافسة مع الإبقاء على شخصية كل مشروع من الناحيتين القانونية والاقتصادية، بحيث لا تندمج مع بعضها كما هو الحال بالنسبة لاتفاقيات الترست (Trust)، التي تتنازل فيها المشاريع عن استقلالها. ويختلف الكارتل عن الشركة القابضة، في أن هذه الشركة تقوم على أساس من المساهمة الفعلية في رؤوس الأموال للشركات التابعة والتعاون بين الشركات أعضاء المجموعة دون احتكار مُعلن أو مغطى. (الموسوعة الحرة)
هكذا نستطيع أن نفترض بان إيفان ماتفئتش قد وقّع عقداً أو ميثاقاً مع الشركة الأجنبية (كارتل)، ولا يمكنه الخروج ببساطة من داخل جوف التمساح، لأن "العقد شريعة المتعاقدين".
ونفترض أيضاً، نبوءة دوستويفسكي واستشرافه للظاهرة الاحتكارية الامبريالية في الرأسمالية.
قال إيفان ماتفئتش مخاطباً صاحبي التمساح: "هما على حق، إنما ينبغي أن ننظر إلى الأمور نظرة اقتصادية قبل كل شيء" .
يقول الراوي: صرخت أقول: يا صديقي، سأذهب إلى رؤسائنا فوراً لتقديم شكوى، ذلك أننا لن نستطيع أن نحل هذه القضية وحدنا. " أجاب إيفان: هذا رأيي أنا أيضاً، ولكن من الصعب في هذه الفترة التي استحكمت فيها أزمة اقتصادية، أن يفتح بطن تمساح دون أن يُدفع تعويض." .
إن إيفان الذي استخرج جواز سفر بحجة الرغبة في استطلاع بلاد أوروبية متقدمة، قد وقع عقداً مع فرع شركة ألمانية (كارتل) تعمل في روسيا، وهذه حيلة خدع بها رؤساءه كموظف روسي، ولا يمكنه فسخ العقد (شق التمساح) دون دفع تعويض. قال إيفان: ولكن من ذا الذي يدفع المبلغ؟ ذلك أنك تعرف أنني لا أملك ثروة"
إن المفارقة التي يعيشها البورجوازي الصغير، أنه يريد أن يدخل في أعمال اقتصادية، ويعقد صفقات مع رجال أعمال أجانب، ومع ذلك يغار على امراته من موظف كبير مثقف. ويبدو أن كلمة "مثقف" كانت تطلق على أي موظف كبير في روسيا، بحيث ان كلمة "الطبقة المثقفة" تعني "الطبقة الراقية" الحاكمة ذات النفوذ.
يقول الراوي: "ذلك أن إيفان ماتفئتش وهو المتقدم بالسن كان يغار على امرأته الشابة الجميلة من هذا الرجل (آندره أوسيبتش) غيرة شديدة منذ زمن طويل. كان إيفان ماتفئتش يعرف أن زوجته تحب كثيراً أن تذهب إلى رجل مثقف فتأخذ تبكي امامه، لأن الدموع تناسبها كثيراً". نلاحظ أن سرد دوستويفسكي لا يخلو ولو للحظة واحدة من التهكم والسخرية.
يبدو أن إيفان يلعب القمار، يقول لصديقه (سيمون) راوي قصتنا: "اذهب اليوم إلى تيموتي سيميونتش، فهو رجل متخلف العادات، شديد الغباء، والاهم من ذلك أنه رجل على جانب عظيم من الاستقامة، أبلغه سلامي واقصص عليه هذا الحادث بكل تفاصيله، واعطه في الوقت نفسه سبعة روبلات كان قد ربحها مني حين لعبنا بالورق آخر مرة معاً. فقد يسدي إلينا حينئذ بنصيحة حسنة " .
أقول لكم: إن تيموتي سيميونتش الشيخ هذا، هو الرجل الوحيد الذي يستطيع إيفان ماتفئتش بحضوره أن يكبح جماح غيرته على إلينا إيفانوفنا ويدفنها، خاصة وأن كلاهما متقدم في السن.
قال الراوي:
"قالت إلينا إيفانوفنا وهي تنظر إلى وجهها في جميع مرايا "الممر" فتلاحظ بسرور واضح أن هذه الهزّة إنما زادتها جمالاً:
-يا إلهي ما أشد طمع هؤلاء الناس!
فأجبتها وأنا أشعر بشيء من الانفعال وكثير من الاعتزاز بسيدتي:
-هذه وجهة النظر الاقتصادية"
إن السر في زيادة جمال وجهها أنها تخلصت إلى حد ما من وجهة نظر كريهة، هي وجهة النظر الاقتصادية الليبرالية الوضعية لزوجها إيفان ماتفئتش.
قالت وهي تجرّ صوتها اللطيف الحلو جرّاً:
-وجهة النظر الاقتصادية؟ إنني لم أفهم شيئاً مما قاله إيفان ماتفئتش منذ قليل في موضوع وجهة النظر الاقتصادية الكريهة هذه" .
قلت لها (والكلام للراوي سيمون):
-سأشرح لكِ الامر.
وأخذت أفيض في الكلام عن النتائج المفيدة التي تنتج عن تجمع رؤوس الأموال الأجنبية في بلادنا، لا سيما وأنني كنت قد قرات في ذلك الصباح نفسه مقالات في هذا الموضوع في جريدة "أنباء بطرس برغ"، وفي جريدة "الشعرة"" .
وهنا يتلاعب دوستويفسكي بالتشابهات اللفظية. فقد رأينا من قبل كيف سمّى التمساح (كارل) لتشابهه مع (كارتل). فالجريدة التي يقصدها هنا هي جريدة "رسول سان بطرس برغ" التي كان يصدرها ف. ف. كورش، وجريدة "الصوت" التي كان يصدرها كرايفسكي، مستفيداً من التشابه اللفظي بين الكلمتين الروسيتين: Golos (ومعناها الصوت) وVolos (ومعناها الشعرة) (في الهامش 475)
لقد باتت وجهة النظر الاقتصادية الليبرالية البورجوازية الوضعية سخيفة وتدخل في خانة "الوعي الشقي" حسب تعبير هيغل، إضافة إلى كونها باتت مُخجلة.
إن الوعي الشقيّ هو وعيَ المخلوق (العبد) المُنكفئ عن العمل (بما هو جوهر وجوده الفعليّ)؛ فبالعمل نفسه يغدو المخلوق (العبد) خالقاً (سيداً) مُعترفاً به، من خلال خلق طبيعة جديدة. إن "الوعي الشقي" جعجعة من دون طحين؛ كلام من دون فعل منتج.
أما العامل بأجر، البروليتاري، فهو "خالق" وسيد غريب عن أرضه وداره، سيد ليس بمالك الملك. فقد جاء مالك وسائل الإنتاج وسلبه نتاج عمله، سلبه مخلوقاته التي خلقها بجهده وعرقه ووقته. إنه لأمر يدعو للضحك أن يكون العمل الأجير بالنسبة لهيغل، هو من يحول العبد إلى سيد! لقد حولتنا البورجوازية الوضيعة الرثة من أسياد إلى عبيد، عبيد متخلفين.
يقول الراوي: ثم قاطعتني، وأنا أشرح لها وجهة النظر "الاقتصادية" أو (الاقتصادوية) التي انتقدها لينين لاحقاً بشدة في كتابه: من هم "أصدقاء الشعب" وكيف يحاربون الاشتراكيين الديمقراطيين؟ 1894 “)، قائلة:
-ما أغرب هذا كله! هلا كففت حالاً، أيها الشقي، عن قص هذه السخافات كلها! قل لي أأنا مُحمرّة الوجه كثيراً؟" .
إن إلينا إيفانوفنا في خجلها من "وجهة النظر الاقتصادية" لتضاهي في جمالها هنا "أثينا" ربّة الحكمة عند اليونان. لكن النساء لسنا متفوقات في الحكمة النظرية وحسب، بل وبالحكمة العملية. يقول الراوي سيمون سيميوفتش: ألا إن النساء ليتفوقن على الرجال تفوقاً كبيراً في الروح العملية إذن حين يكون الامر أمر مسائل الحياة" . ثم أضاف: "قالت ذلك وابتسمت ابتسامة ساحرة تدل على مدى ما تبدو لها حالتها الجديدة شائقة". تقول: ها أنا أرملة أو شبه أرملة". لقد تحررت من اقترانها "بوجهة النظر الاقتصادية" الليبرالية وفلسفتها الوضيعة المخجلة. وأردفت: إنني لأرثي لحاله كثيراً" ولقد فسرت أنا الراوي سيمون سيميوفتش كلامها بالقول: "هكذا كانت تُعبّر عن ذلك القلق الطبيعي جداً الذي تشعر به امرأة شابة شائقة زال زوجها منذ قليل" .
وأنا استخدم هنا كلمة بورجوازية "وضيعة" لتشابهها مع كلمة فلسفة "وَضْعيّة" على طريقة دوستويفسكي في التلاعب اللفظي أو اللعب بالألفاظ. إن استخدام دوستويفسكي للتلاعب اللفظي يريد به الإشارة تهكُّمياً إلى ثقافة إيفان الموسوعية وتكوينه العالمي.
إن التلاعب بالألفاظ بيديا (paideia) مصطلح من أصل يوناني يستخدم للإشارة إلى نموذج مثالي للتعليم والتكوين العالمي للإنسان، وفقًا للنماذج الموروثة من العصور القديمة الكلاسيكية اليونانية والشرقية. وتعني بشكل عام التعليم الموسوعي الذي يشمل المعارف كلها. فابن سينا كان طبيباً وفيلسوفاً، وابن رشد كان طبيباً وفيلسوفاً وفقيهاً، وهلمَّجرا.
كما أن اللفظة تشير إلى ما هو "مدفوع الثمن". لقد دفع إيفان حياته ثمناً لوجهة نظره الاقتصادية الليبرالية التافهة.
في أواخر الصفحة 419 يعمد دوستويفسكي إلى "كسر إيهام القارئ" بدخوله على خط السرد، وتسلّم دفّة الكلام بدلاً عن الراوي ليقول لنا الكلمات التالية: "كتبت هذا الفصل الأول بالأسلوب الذي يناسب قصتي. ولكنني قررت أن أستعمل فيما سيلي لهجة أقل رفعة، ولكنها طبيعية أكثر. وإني لأنبه القارئ إلى ذلك على النحو الذي توجبه الاستقامة" (نهاية ص 419)
يبدو أن القسم الأول من القصة يعتمد أسلوب المثقفين الذي يحمل شيء من التصنع والشعرية الخيالية، أما القسم الثاني فسوف يستخدم لغة أكثر عفوية وطبيعية، أكثر اقتصادية، خالية من التكلف والتصنع والشعرية المجازية المتثاقفة.
بعد أن أعاد دوستويفسكي الراوي إلى مكانه ومقعده قال الأخير: "فلما أنهيت كلامي" في بيت تيموتي سيميونتش قال لي: "هل تصدق إذا قلت لك إنني كنت أتنبأ دائماً بأن حادثاً كهذا الحادث سيقع لإيفان ماتفئتش؟"
قلت أسأله: كيف هذا ياتيموتي سيميونتش؟ يخيل إليّ مع ذلك أن هذه الحادثة خارقة للعادة جداً (مُعْجِزة)"
قال: موافق. ولكن قل لي: ألم تكن كل حياة إيفان ماتفئتش تتجه إلى نتيجة كهذه النتيجة؟ لقد كان جسوراً جسارة تتجه إلى أن تكون وقاحة. ولم يكن في فمه كلمة غير كلمة "التقدم". وكانت له أفكار أخرى كثيرة. فانظر إلى أين يقودنا هذا التقدم!
يميز دوستويفسكي في تلك الفترة بين أنواع من التقدميين الروس، كما أنه يشير إلى مسألة هامة جداً لدى فضوليي الثقافة الذين يجرّون أذيالهم زُهوّاً وعُجْباً، الذين يحشرون أنفسهم في كل مكان، ويمضون إلى حيث لا يناديهم أحد ولا يطلبهم، فيقعون في الحرج، ويظهرون كمسوخ لا يشغلها شاغل حقيقي يمس مصالح الشعب.
يقول تيموتي متبابعاً كلامه: "ولكن يُخيل إليّ أن هذا الحادث الطارئ، العرضي تماماً، لا يمكن اعتباره قاعدة عامة تصدق على جميع التقدميين
-الامر كذلك شئت أم أبيت. صدقني هذا كله نتيجة الافراط في الثقافة. إن الذين يعرفون أكثر مما يجب أن يعرفوا يحشرون أنفسهم في كل مكان، ويمضون حتى إلى حيث لا يناديهم أحد ولا يطلبهم أحد" هم الذين ذكرهم الحلاج في "طاسين الأزْل والالتباس"، حيث يقول: "لُعن إبليس حين وصل إلى التفريد، وطُلب حين طالب بالمزيد". والزاي الأولى في اسم إبليس القديم (عزازيل): "لازدياد الزيادة في زيادته". وإبليس ما رجع إلى حوله، (وأحمد صلعم) ادّعى ورجع عن حوله بقوله: "بك أحول وبك أصول". (الاعمال الكاملة)
قال تيموتي سيميونتش معلقاً على حالة إيفان ماتفئتش: إذا كانت حالته سيئة فالذنب في ذلك ذنبه. . لكن الامر الذي يجب ان ننظر فيه قبل كل شيء هو أن التمساح ملك لصاحبه، وأن المبدأ الاقتصادي هو موضع البحث تبعاً لذلك. إن المبدأ الاقتصادي يعلو كل شيء. أمس، كان أجناتي بروكوفتش يتحدث في هذا الموضوع عند لوكاس أندريئتش. هل تعرف أجناتي بروكوفتش؟ إنه رأسمالي كبير يتعاطى أعمالاً ضخمة ويجيد التعبير عن آرائه. كان يقول: نحن بحاجة إلى صناعة. فلا وجود للصناعة عندنا إذا صح التعبير. فيجب علينا إذاً أن نخلق الصناعة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف يجب ان نخلق طبقة بورجوازية. ولما كنا لا نملك رؤوس أموال، فيجب الاتيان برؤوس الأموال من الخارج. فعلينا إذن، قبل كل شيء، أن نتيح للشركات الأجنبية أن تشتري أراضينا أجزاء أجزاء، كما يحدث هذا في كل مكان من البلاد الأجنبية. إن التملك الجماعي (المشاعة الريفية) هو السُمّ القاتل، هو "الافة الكبرى"، هو خراب روسيا. وكان يتكلم بحماسة شديدة، ذلك يناسب هؤلاء الناس الذين هم أغنياء، ولا يعملون في وظائف الدولة. ويقول أنه لا الصناعة ولا الزراعة تزدهر ما بقي شيوع التملك هذا”. و(المشاعة الريفية الروسية؛ المير) هذه تسمى "أوبشينا Obshchina بالروسية : общи́на وتعني حرفيا "الكمونة" أو مير (Mir) بالروسية: мир وتعني حرفيا "المجتمع" ، أو "المجتمع الريفي"، وهي نوع من حيازة جماعية تقودها رابطة فلاحية تُقسم الأرض على الفلاحين سنوياً ، مع تدوير الحيازة كل سنة. وهذه تشبه "الميرة العثمانية" أو الأرض الاميرية التي بحوزة الفلاحين.
الأوبشينا مصطلح روسي ظهر رسمياً في القرن التاسع عشر، ويدل على المشاعات الريفية الفلاحية في الإمبراطورية الروسية على عكس المزارع الفردية، أو الخاوريون" (الموسوعة الحرة).
وكانت هذه "المشاعات الريفية" الروسية موضوع مراسلات بين ماركس وفيرا زازولتيش من تيار الشعبويين الروس. ففي رسالة له في 8 آذار، لندن 1881، يقول فيها:
أيتها المواطنة العزيزة:
إن مرضاً عصبياً أشكو منه بصورة دورية منذ السنوات العشر الأخيرة منعني من الرد بصورة أبكر على رسالتك المؤرخة في 16 شباط (1881). ويؤسفني أنى لا أستطيع أن أقدم إليك عرضاً موجزاً ومعيناً للنشر عن المسألة (مسألة المشاعة الريفية الروسية ومصائرها التاريخية) التي شرفتني بعرضها عليّ. ولقد مضت أشهر منذ وعدت بعمل عن الموضوع نفسه للجنة سان بطرسبورغ. ومهما يكن من أمر، فإني أرجو أن تكفي بضعة أسطر كي لا تترك لديك أدنى ارتياب في سوء التفاهم حيال ما يسمى نظريتي. حين حلّلت تكوّن الإنتاج الرأسمالي قلت: "هناك إذن في أعماق النظام الرأسمالي، الانفصال الجذري للمُنْتِج عن وسائل الإنتاج .. وأن أساس كل هذا التطور هو نزع ملكية الزارع (المزارع). وهو لم يكتمل بصورة جذرية إلا في إنكلترا. لكن جميع بلدان أوروبا الغربية الأخرى تجتاز الحركة نفسها" (رأس المال، الطبعة الفرنسية)
إن "القدر التاريخي" لهذه الحركة مقصور إذن بكل وضوح على بلدان أوروبا الغربية. وإن السبب في هذا القصر مبين في هذه الفقرة من الفصل الثاني والثلاثين: "إن الملكية الخاصة، المؤسسة على العمل الشخصي .. سوف تحل مكانها الملكية الخاصة الرأسمالية، المؤسسة على استثمار عمل الغير، على العمل الأجير" (رأس المال)
المقصود إذن في هذه الحركة الغربية، هو تحول شكل الملكية الخاصة إلى شكل آخر للملكية الخاصة. وأنه ليترتب عند الفلاحين الروس، على العكس من ذلك، تحويل ملكيتهم المشاعة إلى ملكية خاصة.
فالتحليل المعطى في رأس المال لا يقدم إذاً أسباباً لا مع ولا ضد حيوية المشاعة الريفية. لكن الدراسة الخاصة التي قمت بها عنها، والتي بحثت عن موادها في المصادر الاصلية (ماركس يقرأ الروسية)، قد أقنعتني بأن هذه المشاعة هي نقطة الاستناد للإحياء الاشتراكي في روسيا، لكن كي تتمكن من العمل بهذه الصفة (أن تكون مدخلاً إلى الاشتراكية) يتعين قبلاً حذف المؤثرات المُتلفة التي تهاجمها من كل الجوانب ومن بعد ضمان الشروط الطبيعية لتطور عفوي لها"
يشرفني ايتها المواطنة العزيزة، أن أكون مخلصاً لك كلياً
المخلص: كارل ماركس (مراسلات ماركس-انجلز)
بالطبع إن شرط المشاعة الريفية في الاحياء الاشتراكي الروسي، والانتقال مباشرة إلى الاشتراكية، والاستغناء عن وجود طبقة بورجوازية، يعني بالضبط انتصار الثورة البروليتارية في أوروبا الغربية (ألمانيا، فرنسا، إيطاليا). لكن الامر للأسف سار بالعكس، حيث أن الثورتين الإيطالية والألمانية قد فشلتا سنة 1918، وتركتا الثورة الروسية المنتصرة سنة 1917 وحيدة معزولة من دون سند.
يكمل تيموني حديثه عن بروكوفتش: "هو يريد أن تشتري الشركات أرضنا كلها أقساماً، بغية أن تجزئها حصصاً صغيرة جداً تبيعها بعد ذلك فتتألف منها ملكيات فردية. . ومتى أصبحت أرضنا كلها في أيدي شركات أجنبية، سهل تحديد نصيب الفلاح، وبذلك يكون على الفلاح أن يعمل ليجني رزقه، ويكون من الممكن طرده من هذه الأرض أو من تلك عند الضرورة. فإذا شعر بهذا الخطر، أصبح أكثر احتراماً وأكثر طاعة وأنتج من العمل ثلاثة أضعاف ما ينتجه منه الان بسبب كونه جزءاً من جماعة فيستطيع لذلك أن يستخف بكل شيء. هو يعلم الآن أنه لن يموت جوعاً، لذلك نراه يتكاسل وينصرف للسكر". وقد يعتقد من يستمع إلى بروكوفتش أن زيادة انتاج الفلاح سوف تعود عليه بالمنفعة والرفاه، إلا أن الامر عكس ذلك تماماً حسب بروكوفيتش نفسه، حيث يضيف: "أما بالأسلوب الجديد فإن المال سيعود إلينا، وستجيئ البورجوازية برؤوس أموالها. ثم إن "التايمز"، الجريدة الأدبية والسياسية التي تصدر في لندن، قد أعلنت في دراسة نشرتها، أنه إذا كانت رؤوس أموالنا لا تزداد، فلأننا تعوزنا الثروات الضخمة والبروليتاريا المنتجة" . إن بروكوفتش وككل رأسمالي مستغِل يريد نزع ملكية الفلاح وتحويله إلى بروليتاري يبيع قوة عمله بثمن بخس إلى الطبقة البورجوازية المستوردة من أوروبا الغربية
لا يخفي العجوز تيموتي سيميونتش إعجابه الشديد بهذا الخطيب الاقتصادي الرأسمالي بروكوفتش، حيث يقول فيه: "إن أجناتي بروكوفتش يحسن الكلام جداً. إنه خطيب حقاً. في نيته أن يقدم مذكرة إلى السلطات العليا، مذكرة سينشرها بعد ذلك في جريدة "الانباء “. هذا الكلام وهذا السرد هو ما أشار إليه دوستيوفسكي عند الحديث عن الانتقال من القسم الأول للقصة، حيث الشعرية والمجاز والخيال، إلى القسم الثاني الواقعي حيث المصالح الاقتصادية المتصارعة، وحيث صراع الطبقات، وجبروت رأس المال. يقول تيموتي معلقاً على خطاب بروكوفتش: "نحن بعيدون (هنا) عن مشكلات إيفان ماتفئتش الشعرية" الخيالية.
"ولكن، هل تعرف أيها القارئ المحترم أجناتي بروكوفتش؟
يقول أجناتي بروكوفتش: "إن الصفة المميزة للعولمة هي شيء آخر تماماً كما بينت وشرحت. وهي صفة اقتصادية قبل كل شيء وبامتياز"
لم يعد أجناتي بروكوفتش يتحدث عن الامبريالية الرأسمالية وتناقضاتها، خاصة مع تعميم علاقات الإنتاج الاجتماعية الرأسمالية (علاقات الملكية الخاصة الرأسمالية)، بل راح يتحدث عن عناصر فوضى ضمن النظام ما تزال تتزايد. يقول الدكتور العظم: "إن الفوضى والتناقض والتضارب ليست عوامل انهيار ودمار دوماً، بل كثيراً ما تكون علامات حيوية ونشاط وتجدد وصحة وقوة" (ما هي العولمة). وعوضاً عن فهم الظاهرة الجديدة في الامبريالية راح (العظم) يمدحها" (في القول السياسي-1)
قال الراوي: "طيب. فماذا نحن فاعلون من أجل إيفان ماتفئتش؟
قال تيموتي: كل ما قلته يرتبط به ويدور عليه. إن على إيفان ماتفئتش ان يغتبط وأن يعتز بأنه استطاع أن يضاعف قيمة تمساح أجنبي ضعفين اثنين بدخوله فيه. ضعفين اثنين؟ بل ثلاثة أضعاف! وإذا نجح صاحب هذا التمساح، فسيأتي رجل ثان بتمساح آخر، ثم يجيءُ ثالث بتمساحين أو ثلاثة، فتتجمع حولهم رؤوس الأموال، فإذا بنا نرى بداية نشوء طبقة بورجوازية"
نعم، نحن في البلدان المتخلفة بحاجة إلى صناعة متطورة، وإلى زراعة متطورة، وكذلك إلى خدمات متطورة. لكن من قال إننا من أجل ذلك بحاجة إلى طبقة بورجوازية!
لقد تبين بالدليل القاطع أن البورجوازية الوضيعة (الوضعية) التي ظهرت في البلدان المتخلفة كحثالة تاريخية للظاهرة الامبريالية، هي أعجز ما يكون عن انجاز مهمات بهذا القدر من الضخامة، وأنه بات على البروليتارية في وجودها السياسي وتحالفاتها الديمقراطية انجاز مهمات التصنيع المتطور والزراعة المتطورة في البلدان المتخلفة. وسوف تقف البورجوازية الوضيعة في صف الامبريالية الرأسمالية كحجر عثرة أمام انجاز مهمات كهذه المهمات. لقد باتت هذه الحثالة عقبة تاريخية أمام "التقدم". وخير دليل على انتفاء الحاجة لطبقة بورجوازية من أجل "التقدم" هو تجربة التحديث الصيني وتطوره الصناعي بقيادة بروليتاريا اشتراكية متحالفة مع الفلاحين الفقراء.
وعلى الضد من كلام تيموتي سيميونتش: "ليس يملك المرء إلا أن يدين هذه الحركة (المطالبة بطبقة بورجوازية)، بل ليس يفيها المرء حقها، إلا بمزيد من الإدانة" (قارن مع نهاية ص 426) وأرجوكم أن تتذكروا قول تيموتي سيميونتش لراوي القصة: "أرجوك أن تتذكر أنني لست رئيساً " وأقول لكم ما قاله عليّ: "ولكن، لا رأي لمن لا يطاع".
يتهكَّم دوستويفسكي مرة أخرى على المراتب الوظيفية والزواج الشرعي في روسيا. وقد تكون البيروقراطية المفرطة والطقوس المتزمّتة هي المستهدفة. يقول تيموتي للراوي: "ثم إنني أعود فأسألك: ما لذي أمره بأن يحشر نفسه في جوف ذلك التمساح؟ هل يجوز لرجل جاد، لرجل ذي رتبة، لرجل متزوج زواجاً شرعياً، أن يقوم بمغامرة كهذه المغامرة؟ ما هذا الذي فعله؟"
إن دوستويفسكي يتحدث عن إيفان ودخوله إلى شركة استثمار أجنبية وإبرامه عقداً معها، مع أنه موظف ذو رتبة، على أنه دخول إلى سجن، لأن العمل الشاق في شركات كهذه تبالغ في حب النظام، وشراهتها للإنتاج المفرط والربح، يعتبر سجناً إذا ما قورن بوظيفة روسية رتيبة. يقول تيموتي: "نعم، السجين، آه من الخفة والطيش!"
إن استلاب العمل الأجير، يحول الانسان المعاصر إلى مسخ على طريقة كافكا في قصته "الانمساخ". يقول الراوي: صرخت أقول وأنا أدنو من حوض التمساح، آمل أن تصل كلماتي إلى مسامع إيفان ماتفئتش وأن ترضي غروره.
-هل أنت حي؟ أأنت على قيد الحياة يا صديقي العزيز العالِم؟
فأجابني بصوت مختنق كأنه صوت آت من تحت سرير، رغم أني كنت قريباً منه كل القرب"
هذا الاختناق في الصوت هو "نصف حالة" بطل كافكا في "الانمساخ". إن بطلنا لم يتم تحوله بعد، وما يزال يحتفظ ببقية من الحياة. إنه على عتبة الانمساخ، وهذه عادة دستويفسكي في جعل أبطاله يجرون حواراتهم عند العتبات. قلنا في "ديوان دستويفسكي":
الحوار الكبير يجري تنظيمه
بوصفه انفتاحاً خاصاً
بنفس الحياة الواقفة على الأبواب
تلعب العتبة
دور المتردّدِ المنقسم
لكن
لماذا على ديستويفسكي
أن ينشغل كل هذا الانشغال
بالعتبة
وبأسكفة الباب
بالمرأة؟! (ديوان الافكار)
إن هذا التنازع والتمزق (الفَسْخ) لدى إيفان بين وظيفة برتبة، وبين العمل في شركة أجنبية للاستثمار، هذا التمزق عمل شيطاني. يقول الراوي: "وا أسفاه! إن الامر أمر شيطاني حقاً"
يقول الراوي: "كيف استقر له المقام في جوف تمساح، وهل الحياة هناك محتملة. وكان يخيل إلي في بعض اللحظات أنني لعبة في يد حلم شيطاني". نعم، كان شيطانياً، لكن لم يكن حلماً، بل كان كناية عن واقعٍ لا سبيل إلى تفاديه. وإلا فهل كان يمكن أن أشرع في سرد قصته."
والحق يقال: إن مسألة الاستثمار الأجنبي وتوظيف الأموال، أمر واقع ولا سبيل إلى تفاديه، وهو أبعد ما يكون عن الحلم.
ولإخراجه من المأزق المتناقض، اقترح عليه العجوز تيموتي عبر الراوي سيمون فكرة الايفاد بمهمة علمية وعملية إلى الشركة الأجنبية. وقد لاقت الفكرة استحسان إيفان. يقول: "العجوز على حق .. إنني أحب الناس العمليين، ولا أطيق احتمال الضعفاء. على أنني أعترف لك طائعاً بأن فكرتك عن إيفادي بمهمة ليست سخيفة إلى الحد الذي يتراءى للمرء من أول وهلة. ذلك أنني أستطيع هنا فعلاً أن أقوم بملاحظات هامة جداً شائقة جداً، سواء من الناحية العلمية أو الناحية الأخلاقية. ولكن هذه القضية تجري الان مجرى لم يكن في الحسبان، وليست الرواتب هي وحدها ما يجب ان نشغل بالنا به"
يتنبأ إيفان ماتفئتش لنفسه العظيمة بمستقبل كبير، خاصة وأن روسيا كلها مسؤولين ومواطنين ومقاطعات، قد أصابها الفضول لرؤية هذا الكائن العجيب، الكائن الذي "خلقه" إيفان ماتفئتش بدخوله فيه، مقلداً بذلك نبياً من أنبياء "إسرائيل" حين يقول: "سوف أكون أشبه بمنبر عال تهبط منه على الإنسانية أقوال عظيمة. إذا لم تحسب إلا المعارف العلمية التي جنيتها حتى الان عن هذا المخلوق العجيب الذي أسكن في جوفه، لكانت هذه المعارف وحدها ثمينة إلى أقصى حد. ذلك هو السبب في أنني غير آسف للحادث الذي وقع لي، وأنا أتنبأ بأن يكون له أثر عظيم في حياتي وعملي" ويضيف: "سوف أكون وقد علمتني التجربة، مثالاً لعظمة النفس، وقدوة في الإذعان للقدر." وسوف يتنبأ دوستويفسكي قبل عقد بميل رأس المال في أوروبا الغربية نحو تشكيل الاحتكارات (كارتلات)، حيث سيكون بدو الاحتكارات بشكل ملفت سنة 1876. كما أنه سيلاحظ منذ فشل ثورات 1848 الديمقراطية في البر الأوروبي في أوروبا الغربية، ميل الرأسمالية الحاكمة، خاصة فرنسا، إلى تحويل الصراع الطبقي في الداخل إلى غزو خارجي، واستعمار بلدان زراعية بعيدة في أفريقيا وآسيا (المغرب العربي في شمال غرب أفريقيا، خاصة الجزائر، وسوريا لاحقاً في الشرق الأدنى الآسيوي)
بعد هذا الاستهلال العظيم عن مستقبله الواعد، وعن عظمة أنيته، أصابت إيفان ماتفئتش نوبة من هذيان العظمة أو جنون العظمة، حيث يقول: "إذا أصبحت أنا، هنا شهيراً، فإنني أريد أن تصبح (إلينا إيفانوفنا) هنالك شهيرة أيضاً. إن العلماء والشعراء والفلاسفة، وعلماء المناجم الذين يمرون بمدينتنا، ورجال الدولة الذين سيجيئون إليّ ليتحدثوا معي في الصباح، سوف يترددون إلى صالونها في المساء". ويُعلّق صديقه الراوي سيمون على هذيانات العظمة هذه بالقول: "أعترف للقارئ، بأنني، رغم أن هذا الجنون مألوف في إيفان ماتفئتش معهود فيه، لم أملك أن أمتنع عن الاعتقاد بأنه يعاني من حُمّى شديدة، وأنه يهذي."
لقد ضخّم دخوله في الشركة الأجنبية أنانية هذا المغرور المتغطرس، هذا البورجوازي الصغير، عشرات المرات. يقول الراوي: "هو الآن إيفان ماتفئتش نفسه يرى من خلال نظارة مكبرة تضخمه عشرين مرة في أقل تقدير"
قلت أسأله والقول للراوي وفيه شيء من التهكم: "صديقي، هل تأمل أن تعيش على هذه الحال مدة طويلة؟ قل لي: أننت في صحة حسنة؟ كيف تأكل؟ كيف تنام؟ كيف تتنفس؟ لا تؤاخذني على هذا الفضول، فأنا صديقك، وحالتك خارقة تثير الفضول حقاً"
أجاب يقول بفخامة: "فضول باطل لا طائل تحته، ولكنني أرضى أن أطفئ أواره في نفسك. فاعلم أولاً أن جوف هذا التمساح خال كل الخلو فارغ كل الفراغ “. إن عين جوفه فارغة لا يملأها إلا التراب، هكذا هو طمع الشركة الأجنبية ذات الجوف الفارغ والتي لا تتورع عن ابتلاع البشرية بأجمعها، إنها أشبه بكيس ضخم من المطاط يبتلع كل شيء وتبقى عينه فارغة.
يقول إيفان معتمداً على خبرته العملية: "إن كل ما يتألف منه التمساح لا يعدو بوزاً ضخماً ذا أنياب قاطعة جداً، وذيلاً طويلاً. أما الجوف، المكان الذي يقع بين هذين الطرفين، فليس فيه إلا فراغ مفروش بشيء يشبه المطاط ولعله من مطاط". لا وجود لشيء في بطن التمساح يشير إلى الحياة، كل شيء فيزيائي. قال إيفان: "من الجائز أن تكون قوانين الطبيعة نفسها هي التي شاءت ذلك " قلت والقول للراوي: "والرئتان والامعاء والكبد والقلب؟"
قال إيفان: "لا وجود لشيء من هذا كله" هذا الكائن فيزيائي بحت، ورياضي بحت إنه (ر.ف) ولا وجود لأي أثر للحياة في داخله. "وكما تنفخ وسادة بهواء، كذلك ينتفخ بشخصي فراغ هذا التمساح الذي يبلغ من مرونة الانمطاط حد لا يصدقه العقل"
نقول مع إيفان: فكلما دخله أشخاص مثلي فغرت هاويته أكثر، وانفتح شدقيه كشدقي تنين، فهو يتغذى على هؤلاء الأشخاص المنتفخين أمثالي. أنا وأمثالي من العلماء الاقتصاديين المتنفِّجين التافهين نشكل الهواء الذي ينفخ جوف هذا التمساح الذي لا يشبع من بلع البشر.
يقول إيفان ماتفئتش بطل قصتنا: "ولكن الفيزياء قد علمتنا منذ زمن طويل أن الطبيعة تكره الخلاء. فلا بد أن يكون جوف التمساح خالياً في البداية، على ألا يظل خالياً هذا الخلو، وأن عليه إذن أن يبتلع كل ما قد يجده بغية أن يمتلئ. ذلك هو التعليل الوحيد لتلك الظاهرة التي نراها عند التماسيح. أعني ميلها إلى الابتلاع". وفي لحظة صحو، وعود إلى نفسه وهو يصفها حق الوصف، يقول إيفان ماتفئتش: "هناك فروق في البنية والتركيب بين الكائنات الحية. فالإنسان كلما كان فراغ رأسه أكبر، كان شعوره إلى ملئه أقل. هذا هو الاستثناء الوحيد من القاعدة العامة الانف ذكرها. هذا كله يبدو لي الان واضحاً وضوح النهار. لقد أدركت هذا كله بقوة فكري وقوة تجربتي، إذ غصت إلى أغوار الطبيعة إن صح التعبير، إذا غصت إلى البوتقة التي تتهيأ فيها أسرارها، وإذ سمعت نبضاتها."
ثم يضع دوستويفسكي على لسان بطله إيفان ماتفئتش تفسيراً ما لقصته. يقول إيفان من داخل التمساح متابعاً كلامه مع الراوي: "لاحظ أن علم الاشتقاق اللغوي نفسه يتفق وما انتهيت إليه، فإن اسم التمساح (الكروكوديل) يعبر عما يتصف به هذا الحيوان من شراهة. إن كلمة كروكوديل كلمة إيطالية أغلب الظن أنها من عهد فراعنة مصر القدماء، وهي (الايطالية) مشتقة حتماً من الكلمة الفرنسية croquer بمعنى "قضم"، أي أكل، تغذَّى. إن في نيتي أن أشرح هذا كله للجمهور عند إلقائي محاضرتي القادمة في صالون إلينا إيفانوفنا متى نُقلتُ إليه في قاربي" كما يُنقل الإله المصري القديم (رع) في قارب الشمس.
ومع ذلك، ما يزال إيفان ماتفئتش في حالة هذيان عظمة و "إسهال كلامي"، ومع ذلك يريد صديقه الراوي ان يصف له مسهلاً ليتخفف من حمولته الكلامية الزائدة. ففي هذيانه وإحساسه بضخامته وعظمة كيانه يقول إيفان: "فما دمت اشغل كل جوف هذا التمساح (لسنا بحاجة إلى شخص آخر)، فسوف أشبعه مدى الحياة". ويضيف: "ولما كان أمراً صعباً، حتى على تمساح أن يهضم رجلاً مثلي، فلا بد أن يشعر بشيء من الثقل بمعدته-رغم أنه ليس بذي معدة لذلك تراني أتحاشى، في سبيل ألا أزعجه، أتحاشى أن أستدير ما وسعني ذلك. إن في إمكاني أن أتحرك مستديراً، ولكني امتنع عن ذلك بدافع الروح الانسانية" ولكن يا له من مغفل هذا الإيفان. ألم يظهر له أن هذا التمساح اللعين خال من الحياة، وليس أكثر من كيس مطاطي لا يشبع! وبدل أن يظهر إنسانيته تجاه الفلاحين المعدمين، يظهرها حيث لا داعي لها مطلقاً.
ومع ذلك دعونا نسايره في كلامه، حيث يضيف: "تلك هي المضايقة الوحيدة التي أعاني منها في وضعي الراهن، وبهذا يكون تيموتي سيميونتش على صواب، بالمعنى المجازي، حين ينعتني بالكسل. ولكنني سأبرهن على أن في وسع المرء أن يغير مصير الإنسانية، وإن يكن راقداً على جنبه. بل وأنه لا يستطيع تحقيق هذا الهدف والوصول إلى هذه الغاية إلا وهو راقد على هذا الوضع. إن الكسالى هم الذين ينضجون جميع الأفكار الكبرى وجميع التطورات الفكرية التي تؤيدها جرائدنا وتحبذها مجلاتنا. ولسوف أنشئ من هنا وهناك مذهباً اجتماعياً كاملاً". يبدو أن إيفان ماتفئتش مأخوذ بالأيديولوجية الألمانية التي انتقدها ماركس في كتابه "الأيديولوجية الألمانية " سنة 1845 والتي فحواها أن "الأفكار تحكم العالم، وأن الفلاسفة هم قادته" . وقد وضح لماركس أن قادة العالم هم حفنة من البلهاء البورجوازيين الجشعين عديمي الشفقة والضمير. ويلاحظ القارئ الموجة التهكمية عند دوستويفسكي في هذه العبارات، وتلميحه إلى شيوع موضة المذاهب الاجتماعية والنظريات في روسيا تلك الفترة، التي تطرح نفسها حلاً لمشاكل هذا البلد الشاسع الهائلة.
يطالب إيفان ماتفئتش بحماية استيراد الاصواف الإنكليزية بدلاً من الاجواخ الروسية لأتها تحميه من هضم التمساح له لفترة أطول. هذا الافتتان وهذه الدعاية للسلع الأجنبية هي في صميم وجهة نظره الاقتصادية الليبرالية. يقول إيفان: "لكن المصيبة أن قماش ملابسي من صنع روسيّ، وأنا أخشى ألا يصمد لإقامته ألف عام في جوف هذا الحيوان. فقد يتحلل في آخر الامر وأصبح بلا درع يحميني، فيهضمني التمساح مهما أبذل من مقاومة. فمن أجل تحاشي هذه الاحتمالات على الأقل، يجب تغيير الرسوم الجمركية، وحماية استيراد الاصواف الإنكليزية التي تستطيع لمتانتها أن تحمي من قوى الطبيعة التخريبية مدة أطول. لسوف أنقل هذا الرأي إلى أحد رجال الدولة عند أول مناسبة"
هذه الحُمّة، حُمّى الولع بكل ما هو أجنبي تصيب الأثرياء عادة في البلدان المتخلفة، ومعهم ديوكهم الاشاوس الذين غالبيتهم من البورجوازيين الصغار المتغطرسين الموهومين، المتصاغرين تجاه أسيادهم المحليين والاجانب.
قال الراوي: "قلت لنفسي: "هي الحُمّى! ولكن ما عساك صانع بالحرية يا صديقي؟ أنت الآن كمن يقيم في سجن، أفليست الحرية أكبر الخيرات للإنسان؟" أنت في سجن "نظرتك الاقتصادية"، في غمز من قناة المذهب الليبرالي ذو المبدأ الاقتصادي الوضعي.
أجابني قائلاً: ما أغباك! صحيح أن المتوحشين يحبون الاستقلال، ولكن الحكماء الحقيقيين يحبون النظام قبل كل شيء" وأصل العبارة وردت في قصة لكارامازين عنوانها "مارتا الحاكمة" وهي كما يلي: "الشعوب المتوحشة تحب الاستقلال، أما الشعوب الحكيمة (المتمدنة) فإنها تحب النظام، ولا نظام بدون سلطة مستبدة"
وكارامازين هو نيقولاي ميخائيلوفتش (1766-1826) مؤرخ وروائي روسي. كتب "رسائل رحّالة روسي" 1792، سجّل فيها انطباعاته في أثناء رحلته إلى غرب أوروبا وانكلترا، وأدخل بذلك الوعي العالمي في الأدب الروسي. كذلك تبين روايته المغرقة في العاطفية "ليزا المسكينة" 1792 بداية حركة ما قبل الرومانسية في الأدب الروسي. وله أيضاً "تاريخ الدولة الروسية" في أحد عشرا مجلدا، وتتضح فيه الإمكانات الأدبية للغة الروسية، مما مهد الطريق أمام بوشكين وكبار الأدباء في القرن التاسع عشر. " (الموسوعة الحرة)
يتابع إيفان هذيانه: "أنا في ملجأي الصغير هذا لا أخاف كثيراً إلا من النقد الثقيل الذي تكيله الصحف الكبرى وإلا من الصفير الذي تطلقه جرائد الهجاء اللاذع. وأنا أخشى أن يتخذ مني الهازلون من الناس، والاغبياء، والحاسدون، والعدميون عامة، أضحوكة يتندرون عليها." والملفت في هذه العبارة أن دوستويفسكي قد جمع العدميين عامة من الأصناف البشرية التالية: (الهازلون، الاغبياء، الحاسدون.)
لقد أحرج إيفان ماتفئتش بهذيانه (هذيان العظمة) النقد والنقاد ووضعهم في موقف حرج، لكونه بقي عاقلاً وفاضلاً. يقول للراوي: "إنني لا أخاف من النقد، لأن النقد نفسه يقف الآن في وضع حرج جداً. حسبُ المرء أن يبقى عاقلاً وفاضلاً ليكون كمن يقف على قاعدة وطيدة لا تتزعزع. لئن لم أكن سقراط فسوف أكون ديوجين، اللهم إلا أن أكون الاثنين كليهما في آن واحد، تلك هي رسالتي المقبلة بين الانسانية."
وسُقْرَاط (باللاتينية؛ Socrates )، وباليونانية: ( Σωκράτης )، فيلسوف وحكيم يوناني (470 - 399 ق.م ). أما ديوجين فهو ديوجانس الكلبي، باليونانية Διογένης ، باللاتينية: Diogénēs ( 421 - 323 ق. م) وهو فيلسوف يوناني، وأحد المؤسسين الاوائل للمدرسة الكلبية (المُغرقة في الزُهد والتقشّف). ولدَ في سيتوب بتركيا (آسيا الصغرى)، ودَرسَ في أثينا على يد الفَيلسوف أنتيستنيس. قالَ الشهرستاني صاحب كتاب "المِلل والنِحل": كانَ حَكِيماً فاضلاً متقشفاً لا يقتَني شيئاً ولا يأوي إلى مَنزل." عاصَرَ الاسكندر المقدوني، والذي رَوَى أنه قال: " لو لمْ أكن الإسكندر لوَددت أن أكون دِيوجانس" (الموسوعة الحرة)
فمن أجل بثّ رسالته "الخالدة" بين الإنسانية، سوف يكون إيفان ماتفئتش في حكمة سقراط وتضحيته، وفي تقشف ديوجانس الكلبي وزهده. حقاً، يا لها من تضحية من أجل الانسانية!
من المفيد الإشارة إلى خصوصية صداقة الراوي بإيفان. يقول الراوي: "أنا اعرف أنه كان مريضاً، وأن على المرء أن يداري المرضى، ولكني أعترف صراحة بأنني لم أستطع أن أطيق إيفان ماتفئتش في يوم من الأيام. لقد جعلني خاضعاً لوصايته طوال حياتي ومنذ طفولتي. حاولت ألف مرة أن أنهي ذلك الوضع، غير أن شيئاً ما كان يردني إليه في كل مرة، كما لو كنت آمل أن أقنعه بشيء لا أدري ما هو، وأن أنتقم لنفسي أخيراً. وهي صداقة عجيبة أستطيع أن أقول إن تسعة أعشارها كانت كرهاً لا أكثر."
لا يمكن لشيء تفسير ذلك إلا حاجة البعض للقيادة والحماية، وربما أضفنا إلى ذلك لاحقاً، حب الراوي سيمون سيميونتش لإلينا إيفانوفنا. يقول الراوي سيمون: "وقضيت الليل أحلم بقرود، ولكنني في الصباح حلمت بإلينا إيفانوفنا" ويضيف: "أفهم أنني إذا حلمت بقرود فإنما يرجع ذلك إلى أنني قد رأيت قرود في القفص، أما حلمي بإلينا إيفانوفنا فهذا أمر آخر. ولأذكر الحقيقة على الفور: لقد كنت أحب هذه السيدة"
بالطبع تجب الإشارة إلى الطموح العجيب الشاذ لأصحاب "النظرة الاقتصادية" من الليبراليين البورجوازيين، طموح يخلقه جشع رأس المال المهووس للمراكمة الأبدية. يقول الراوي ملاحظاً ذلك على كل من إيفان ماتفئتش والألماني صاحب التمساح: "إن الطموح العجيب الشاذ لدى هذين المخلوقين الأبلهين أمر لا يطاق"
إن اطمئنان إيفان ما تفئتش المتقدم في السن إلى العجوز تيموتي سيميونتش ليس في محله، لأن الفاتنة الساحرة إلينا تستثير حماسة الجميع، بما فيهم العجوز تيموتي. قالت إلينا إيفانوفنا: "نعم، وحاول أن يواسيني ويسليني. هل تتصور أننا قضينا السهرة كلها نلعب بالورق؟ كان إذا خسر يعطيني حلوى، وإذا خسرت يقبل يديّ. يا للفاجر! تصور أنه كاد يجيء معي إلى حفلة الرقص التنكرية! هذا ما حدث فعلاً! "
يتهكم دوستويفسكي كعادته على الجرائد والمجلات الروسية الليبرالية" "التقدمية"، المفتونة بدول أوربا الغربية الرأسمالية الليبرالية، حيث تنسج هذه الجرائد الحكايات الخرافية حول أحوال وعادات ومدنية هذا الغرب، وهي في ذات الوقت تنتقد "حداثة" روسيا المتخلفة (أنظر كتاب شارل بيرمان: حداثة التخلف)؛ لقد "أصبحت المنازل جديدة ولكن أوهام العقول ما تزال عتيقة" وهو جواب تشاتسكي في مسرحية جريبويدف الشهيرة "كثير من الذكاء ضرر"".
وما كثرة استحضار دوستويفسكي للحيوانات إلا كناية عن "الحكاية الخرافية" Fable حيث أبطالها حيوانات كتمساحنا الدائم الذكر "كارل".
كانت ميول الروس سياسية، وكانت الصحف "المحايدة" أو شبه المحايدة بدعوة "نزعة إنسانية عامة"، تثير الاحتقار، وهو مؤشر على شدة الاستقطاب السياسي في روسيا في تلك الفترة، وسرعة تصديق الخرافات، ومنها الاقتصادية. يقول الراوي بخصوص زملائه في الوظيفة: "الصحيفة" هي جريدة ليس لها اتجاه سياسي شديد الوضوح، غير أنها ذات ميول إنسانية، وذلك ما يجعل الموظفين في مكتبنا يشعرون نحوها بشيء من الاحتقار، ولكنهم يقرأونها مع ذلك"
ومثال هذه الحكايات الخرافية، حكاية الرجل النهم جداً الذي كنايته حرف (ن) والذي طلب من الألماني تمساحاً كوجبة فالتهمه بتلذذ. وهنا يظهر استخدام الحرف (ن) ككناية عن النهم ليشير إلى أن هذه الخرافة تشير كناية إلى إمكانية مجيء مستثمر أكثر جشعاً وثروة فيلتهم التمساح كاستثمار أقل حجماً وشراهة. لأنه كلما كبر حجم الاستثمار الأجنبي زاد شرهه وجشعه وقدرته على الالتهام وابتلاع الاستثمارات الأصغر، والتهام الناس الفقراء. هذا هو قانون رأس المال، قانون البحر المتوحش: الحوت الكبير يبتلع الأسماك الصغيرة. قال الراوي على ذمّة الجريدة الإنسانية: "وشيئاً فشيئاً غاب التمساح في تلك الهاوية (الشيطانية) التي لا قرار لها "
إن ظاهرة الالتهام هذه ليست غريبة على المستعمرين الأوروبيين الغربيين، حيث عرفوا بالتهام وابتلاع خيرات المستعمرات الجديدة بنهم. "إن اللوردات والسواح الإنكليز قد أسروا في مصر عدد كبير من التماسيح، وذاقوا ظهورها شرائح مشوية (بفتيك).. والفرنسيون الذين جاءوا إلى مصر مع فرديناند دي ليسبس يؤثرون قوائم التماسيح على ظهورها" وهذه الكنايات الهضمية والعادات الغذائية للأوروبيين السياح المستعمرين كناية على التنافس والتواطؤ الإنكليزي الفرنسي لاحتلال مصر، خاصة وأن الفرنسيين قد دشنوا تحت إشراف فرديناند دي ليسبس حفر قناة السويس التي ستربط البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. فـ "منذ أن ظفر السياسي الفرنسي فرديناند دي ليسبس في 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1854 من صديقه محمد سعيد باشا والي مصر بامتياز حفر قناة السويس، فرض شروطاً وكانت شروطه مجحفة، ارتبط اسمه بالقناة لتغرق البلاد في الديون التي أفقدتها استقلالها وتفيق على احتلال 70 عاما، فضلا عن وفاة عشرات الآلاف في أعمال السخرة لحفر قناة السويس." (الجزيرة-ثقافة)
"كانت أكثر جرائم السياسي الفرنسي دي ليسبس قسوة إصراره على استعباد المصريين بالسخرة فضلا عن الخيانة والتواطؤ مع الإنجليز لاحتلال مصر عام 1882 ليوطّد أقدام الاستعمار الغربي في القناة وكل مصر" (الجزيرة). وهكذا أجبر الخديوى سعيد حوالي مليون فلاح -خلال مدة الحفر-على ترك بيوتهم وعائلاتهم وحقولهم ليعملوا سخرة في حفر القناة بوسائل يدوية بدائية بدون ماكينات حفر. وفي النقطة التي اختيرت بداية لحفر القناة من ناحية البحر المتوسط في 25 أبريل/نيسان 1859 أقيم حفل متواضع إيذانا بالبدء في عمليات الحفر، ووقف ديليسبس يخطب واعدا المصريين والعمال بالرخاء لعائلاتهم وبلادهم،" (الجزيرة) ونصت لائحة استخدام العمال المصريين في أشغال قناة السويس على أن يكون عدد العمال المصريين في الشركة 4 أخماس مجموع العمال، وهي اللائحة التي تسببت في إكراه حوالي ربع مليون مصري كأكبر حشد آدمي في تاريخ الشركة على العمل في حفر القناة، حين كان تعداد سكان مصر وقتها 4.8 ملايين نسمة عام 1862." (الجزيرة)
في 25 أبريل 1859 دشن دي لسبس حفر القناة في عهد الخديوي سعيد، وانتهى العمل بها بعد عشر سنوات في عهد الخديوي إسماعيل الذي سافر إلى أوروبا في 17 مايو 1869 لدعوة الملوك والأمراء ورؤساء الحكومات ورجال السياسة والعلم والأدب والفن لحضور حفل افتتاح القناة الذي عزم أن يقيمه في 17 نوفمبر 1869(الموسوعة الحرة)
يقول راوي قصتنا: "ومن الجائز جداً أن يتعلم الناس عندنا أن يحبوا أكل الظهور والقوائم جميعاً بدرجة واحدة، وأنه ليسرنا نشوء هذا الفرع الجديد من فروع الصناعة الغذائية لإغناء وطننا الذي يبلغ هذا المبلغ من القوة والتنوع. فلماذا لا نحاول أن نؤقلم التمساح في روسيا؟" لكن على الناس عندنا، وفي جميع البلدان المتخلفة أن يأخذوا العبرة من تجربة مصر في حفر القناة، ليشاهدوا كيف تعمل "وجهة النظر الاقتصادية"، وكيف تزدهر الديمقراطية و "الحرية" التي ترفعها الليبرالية الاقتصادية شعاراً أساسياً لها، بحيث أخذت اسمها منها فجر صعودها في أوروبا الغربية البورجوازية. فعلى تلاميذ هذه البلدان أن يتعلموا من دروس "التاريخ الطبيعي" للاستعمار هذا، وأن يجدوا فيه أمثلة عملية. وأن يظهروا الحكمة والتقشف ويعتادوا رفقة الجوع والبؤس، "إن ملايين من تلك الاوراق المالية المُتّسخة التي يحبها التجار حباً عظيماً، يمكن أن تكون كامنة في جلد تمساح". إن المقتطفات التي استشهدنا بها إنما جاءت من مقالة "الصحيفة" ذات النزعة الانسانية. "إن ما تشتمل عليه هذه المقالة من بعد عن الصحة ومخالفة للواقع قد ساءني كثيراً" هذا ما يصرح به الراوي في مكتب وظيفته.
يستخدم دستويفسكي بعض الألفاظ ليشير كناية إلى مقاصد معينة، يقول الراوي متحدثاً عن زميله في العمل الجالس أمامه بروخور سافتش: "وبدون أن يقول كلمة واحدة تناول جريدة "الورقة" التي مددتها إليه وأعطاني جريدة "الشعرة" وهو يدلني بظِفْره على المقالة التي كان يريد أن يلفت إليها انتباهي". وإذا أخذنا كلمة "الظِفْر" فربما عبّرت عن احتقار بروخور سافنتش لمحتوى المقالة، فهي كما يقال لا تساوي قُلامة ظِفْر. إن الكناية كأسلوب مجازي قصصي تهيمن على عمل دوستيوفسكي هذا الذي نحن بصدده. وهذه السمة مستعارة من تقليد شائع في تراث الاديان التاريخية وتقليدها الكتابي. والديانات التاريخية هي ديانات الانبياء الآباء أو ما يسمى بأديان التوحيد الكبرى (اليهودية، المسيحية، الاسلام).
يقول الراوي: "إليكم ما قرأته في جريدة "الشعرة" في الموضع الذي عينه لي بإشارة من ظِفْره: "يعلم الناس جميعاً أننا تقدميون وإنسانيون (بورجوازيون ليبراليون) وأننا من هذه الناحية نستطيع أن ندعي أننا نعادل أوروبا. ولكن مهما تكن جهود شعبنا ومهما تكن جهود جريدتنا، فلا بد لنا من الاعتراف بأننا ما زلنا بعيدين عن أن نصبح "ناضجين"، إذا جاز أن نقطع برأي في هذا الموضوع على أساس حادثة مثيرة للحنق كان "الممر" مسرحها بالأمس، وكنا قد تنبأنا بها دائما" "
ما نزال نسبح في الخرافة، ونحلم بالتقدم، "ما نزال بعيدين عن النضج بعداً كبيراً " وهي جملة للاقتصادي لامانسكي في خطاب ألقاه سنة 1859 " (هامش ص 477). لم تستطع الايديولوجية الليبرالية تحفيز روسيا وبث الحَميّة في بحر من الفلاحين الفقراء والبائسين المعدمين، ومن حشد من اللامبالين السكارى. كانت روسيا غير ناضجة للبورجوازية الليبرالية ومذهبها الاقتصادي الوضعي الرَثّ. كانت تنمية روسيا وتقدمها بحاجة إلى مذهب آخر يثير حميتها ويوقظها من الثبات، فكانت الاشتراكية الماركسية هي المذهب المنشود، وقد تُوّجت هذه الحركة التاريخية بالثورة الروسية الاشتراكية بقيادة البلاشفة (أكتوبر 1917)
نتابع القراءة في مقالة "الشعرة" (صوت الليبرالية البورجوازية): "وصل إلى بلادنا رجل أجنبي يمتلك تمساحاً "، وأخذ يعرض حيوانه في "الممر". نسارع فنقول على الفور أننا نبارك هذا الفرع الجديد من فروع صناعة مفيدة، وهو فرع ما يزال ينقص جذع وطننا القوي المتنوع. ولكن إليكم ما حدث: أمس، في الساعة الرابعة والنصف (أوان العصر) وصل إلى محل ذلك الرجل الأجنبي، على حين فجأة، رجل سمين جداً قد أخذ السكر منه كل مأخذ، فما أن دفع ثمن تذكرة الدخول، حتى مضى يقتحم فم التمساح دون أن ينبّه أحداً، فلم يملك التمساح إلا أن يبتلعه، ولو بدافع غريزة البقاء وحدها تحاشياً للاختناق، وما كاد الرجل المجهول يهوي في جوف التمساح حتى نام نوماً عميقاً. لم تنفع صرخات صاحب التمساح ولا دموع أسرته المروعة .. بينما كان الحيوان اللبون المسكين الذي اضطر إلى بلع لقمة ضخمة كهذه اللقمة يذرف دموعاً (دموع التماسيح) يذرف دموعاً غزيرة. وأصرّ الدخيل على ألا يخرج. إننا لا نعرف كيف نعلل وقائع تبلغ هذا المبلغ من التوحش والهمجية، وتدل على اننا ما نزال بعيدين عن النضج بعداً كبيراً، وتحطّ من قدرنا في نظر الأجانب". لقد أساء تخلف الروسي إلى الاستثمارات الأجنبية، بحيث ظهرت وحشية رأس المال وجشعه وتوحشه أمراً يسيراً أمام لا مبالاة وعربدة المواطن في بلد متخلف. يقول كاتب المقالة: إن هذا الميل إلى الجنون، وهو جوهر خُلُقنا الروسي، قد تجلى في هذه الواقعة على أوضح نحو"
تقول "الشعرة" صوت البورجوازية الليبرالية الوضيعة المتخلفة التي تشكو من التوحش والهمجية: “ثم إننا نلفت نظر قراءنا إلى القسوة الشديدة التي تشتمل عليها معاملة كهذه المعاملة لحيوان منزلي. إن المحاكم في أوروبا قد بدأت منذ زمان طويل، بمحاكمة أولئك الذين يعاملون الحيوانات المنزلية معاملة خالية من الروح الإنسانية. أما في بلادنا، فرغم شيوع الإضاءة على الطريقة الأوروبية، ورغم رصف الطرق على الطريقة الأوروبية، ورغم بناء المنازل على الطريقة الأوروبية، سينقضي وقت طويل قبل ان (نمتلك المحاكم الحيوانية) ونقتصّ من الأشخاص الذين يرتكبون مثل هذه الاعمال الاجرامية. أصبحت المنازل جديدة، ولكن أوهام العقول ما تزال عتيقة!"
هذه هي "حداثة التخلف" التي تأتي بها البورجوازية الليبرالية الوضيعة، حثالة الامبريالية الرأسمالية، ومعها الاستثمار الأجنبي، والتدخل الامبريالي "الإنساني".
قال الراوي سيمون: عجيب! يشفقون على التمساح بدلاً من أن يرثوا لحال إيفان ماتفئتش!
رد عليه بروخور سافتش: " سيان أن تكون الشفقة على هذا الحيوان اللبون أو ذاك (الانسان اللبون)! فإنما المهم أن يشفقوا! أليس هذا على الطريقة الأوروبية؟ "
إن دوستويفسكسي الذي يشيد بالشفقة كعاطفة إنسانية عليا، يُظهر لنا البورجوازية الليبرالية كطبقة تاريخية محرومة من هذه العاطفة بشكل مذهل، لدرجة أننا بتنا نعتقد أن السلوك البورجوازي في عصره المتأخر الامبريالي بات سلوكاً بهيمياً عدمياً يدوس بأقدامه قدس اقداس البشرية دون أن تهتز له “شعرة". أقول هذا في وجه جريدة "الشعرة"
نهاية القراءة
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |