|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
نقوس المهدي
2024 / 1 / 15
هناك أدباء ساعدتهم ظروف الحياة، وتوفرت لديهم الامكانيات المعيشية، وتوفر لهم المال والرخاء والجاه وبسط في العيش، وتيسرت لهم سبل النشر والتوزيع، وحشود المعجبين والمحبين والمطبلين، والمجاملات، والمحاباة، والتقييمات المخاتلة، فسبقتهم شهرتهم، وغطت على مستواهم.
وآخرون عركتهم الحياة، وتنكر لهم الدهر على حد قول الأبيوردي، وتلقوا الكثير من الطعنات، وتكالبت عليهم الاقدار فتاهوا بين شعابها من أجل البحث عن وسيلة عيش، مما أدى إلى محدودية انتشارهم، وعدم ظهور مواهبهم، وألجأتهم الحاجة إلى امتهان حرف بسيطة، والركون الى الظل. أو إغراق ارواحهم في الكحول، وهذه حالة نشاز في المجتمعات العربي المصاب بالنكران، عبر عنها الشاعر المغربي مصطفى معروفي في قصيدة تتناول هذه القضية
[أنـــا فــي قــوم لا يــرون ، تــساوى
عــنــدهم ضــوئي بــالظلام الــبهيمِ
أهــمــلوا فـــيَّ بــلبلاً عــذب لــحْن
واســتــساغت آذانــهــم نـَـوْح بـُـومِ
بــيد أنــي لــو كــنت بــين ســواهم
لــســموا بــي إلــى الــمقام الــعظيم
مـــن يــكن شــاعرا بــقوم كــقومي
عـــاش مــحــروما بــينهم كــاليتيم
فــغــدا يــعــرفون قـــدري ولــكــن
بــعدما بــي تــكون أودتْ همومي]*
نذكر من بين هؤلاء الشاعر الكبير جان دمو الذي عاش على سجيته شامتا بالحياة مستهزئا منها، مستمتعا بفوضاها المطلقة، متسكعا ضائعا بين أرباضها الهامشية، يكتب قصائد من أجل وجبة طعام أو كأس نبيذ، مدللا من شلة اصدقاء اصفياء لدرجة أن بعضهم كما كتب علي السوداني "كانوا يحممونه كل أسبوعين مرة، ويحلقون له رأسه، ولحيته، وإبطيه، وشعر عانته، ويمارسون له العادة السرّية نزولاً عند طلبه، أو إمعاناً في السريالية، أو تأكيداً للحياة الغرائبية التي كان يحلو له أن يمارسها"*، والشاعر عقيل علي الذي كان يشتغل خبازا ومات على الرصيف، ومحمد صالح رجب القاص المجدد، بياع محمصات وصحف الذي منع من النشر بسبب مقولته الشهيرة نحن "جيل بلا أساتذة"*. التي استهجنها العديد من الادباء من الجيل السابق، وحسين البلتاجي القاص الموهوب الذي اشتغل فرانا، ورجائي عليش الروائي الذي لم يجد من يحبه، ةالشاعر السوداني التجاني يوسف بشير الذي فصل من الدراسة لأنه فضل امير الشعراء أحمد شوقي على سائر الشعراء حينما قال: (فضل أمير الشعراء على سائر الشعراء كفضل القرآن على سائر الكتب)*. الشيء الذي اثار حفيظة مدير المعهد آنذاك، أحمد محمد أبودقن، وإستيائه الشديد فقرر فصله من المعهد من غير رجعة متهما أياه بالكفر والزندقة، ومواطنه محمد حسين بهنس الشاعر السوداني الذي توفي في ظروف قاهرة وسيئة، وحسين مردان الشاعر الرجيم، وعبدالأمير الحصيري أمير الشعراء الصعاليك، ومحمود أبو الوفا الشاعر الموهبة الذي اشتغل في مقاهى شعبية، وازدراه أمير الشعراء لبساطة هندامه وهيئته وفقدانه لساقه، وأحمد عبيدة الشاعر الذي جمع كتبه على شكل اسطوانة واضرم فيها النار وهو يتلو اشعاره، ويوسف القط، وفولاذ يكن، ابن الاديب الشهير ولي الدين يكن الذي ورد في تعريف أحدهم عنه (كان شاباً ناحلاً كعود الخلال، يهيم على وجهه في شوارع القاهرة بالليل مهلهل الثياب، بلا قوت ولا مأوى، يستجدي الناس على استحياء، والناس بين جواد وممسك لا يدرون قدره ولا يعرفون من يكون.)*، وعبدالحميد الديب الشاعر المملق الفقير الذي سئل يوما عن حياته فأجاب (أنا حي لا أرزق)،
والقاص المنسي ابراهيم فهمي الذي تلبس احمد حبشي شخصيته وكتب على لسانه رسالة بليغة يقول في نهايتها (انتهت رسالتي يا من تبحث عني، وتذكر أن تبلغها لهم في مشارق البلاد ومغاربها وإن تعبت من اللف استرح واقرأ في “العشق أوله القرى” علك تجد “القمر بوبا” في “رمش الصبايا” عند “بحر النيل”.
سلاما لك من هنا حيث لا توجد أقلام أو أوراق.. و”ادع على من حجب صوتي وحجب القمر عني”.
الإمضاء/ إبراهيم فهمي.)*
........
ولنا في سير وحياة العديد من المبدعين أمثلة عديدة، فالقاص المغربي محمد جبران الذي عاش عاطلا عن أي عمل، وتوفي في ظروف صعبة، ولفظته المشافي لانه لا يتوفر على تغطية صحية.. ومليكة مستظرف القاصة المغربية التي استخفت بالحياة والاصدقاء والالم بمجموعتها القصصة (ترانت سيس) وهو رقم جناح للأمراض العقلية والعصبية بمستشفى ابن رشد اكبر واعرق مشافي الدارالبيضاء. برغم وعود وزير الثقافة والجهات المهتمة بالشأن الثقافي، ولم تجد سريرا في المستشفى لتموت في سن مبكرة بمضاعفات القصور الكلوي. لأنها بحسب تصريحها "المشكلة أنني لا أمتلك سيقانا وأفخاذا حتى أعريها"* لتفضح زيف غرائزنا، وقبح مجتمعاتنا، ونفاق نخبنا المثقفة
هذه السلوكات الأخلاقية، والظروف المعيشية والحالات الاجتماعية وسواها تتداخل احيانا وتتناسل لإقصاء العديد من المواهب وتتسبب في ضمورها وخنقها وذوبانها مما يتسبب في عدم ظهورها، فالعديد من الأشخاص لا يطمئنون لرؤية مثل هذه الحالات في اجتماعاتهم، بل ويعملون على اقصائهم، حتى أصبحنا نسمع عن ظاهرة أدباء الهامش المغمورين المنزوين في الأرباض القصية للمدن الصغرى والقرى النائية، بعيدا عن جلبة وضواء أدباء الحواضر المتحضرين الذين تتوفر لهم الدعاية والوسائل.
قرأت في مقال للأستاذ مصطفى نصر بعنوان: ["الأدب وأكل العيش" يحكون عن كاتب كان يطارد نجيب محفوظ في جلساته في الإسكندرية، وقد كانت ملابسه مكرمشة دائما، وحذاؤه ممزقا ولونه باهت. فضاق ثروت أباظة من وجوده معهم، خاصة أنه كان الجالس الوحيد بينه وبين نجيب محفوظ في ذلك الوقت؛ فقال له: - يا بني، أريد أن أتحدث مع نجيب بك في موضوع، يا بني أبحث عن أكل عيشك الأول، أنا ونجيب بك أمّنا حياتنا ومستقبلنا قبل أن نتفرغ للأدب.]*، وهذا السلوك أن مكانة المرء والحضوة الأدبية تصنعها هيئته ووظيفته، لا علمه.
ونفس الأمر وقع لعميد الأدب العربي طه حسين حيث عمل شيوخ الأزهر على ترسيبه وقمعه وازدرائه بسبب أفكاره، وينادونه يا اعمى. وكان يمكن أن يضيع، لولا وجود تلك الانسانة التي أخذت بيده وأنقذته وانتشلته من الضياع، برغم اعتراض أسرتها..
وقد كتب عبدالحكيم قاسم في احدى رسائله سنة 1982 أثناء اجتياح بيروت يقول: «إنني الآن أدرك كيف أنني عشت العمر كلّه أواجه في وطني قهرًا حقيقيًا وإذلالاً حقيقيًا، وأعيش مع ناسي مقاومة غير جادة، وثورة مغشوشة، وحماسة مدخولة.......».
وكتب الشاعر المغربي محمد بن إبراهيم المراكشي (شاعر الحمراء) بضعة أبيات عن تحول حال الزمان، ونكران الخلان قائلا:
[قُل لِمَن مَرُّوا عَلَينَا = ثُمَّ حَيَّونَا كُسَالى
سَكِروا بِالمَالِ والجَا = هِ فَهُم منه ثُمَالى
لكمُ مالٌ وجاهٌ = ولنَا اللهُ تعالى]
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |