رواية (عدلت فأمنت فَنمت) بين الحقيقة والخيال

رحيم فرحان صدام
2024 / 1 / 12

ذكر الثعالبي رواية عن عامر الشعبي تتعلق بهيبة الخليفة عمر بن الخطاب فقال ما نصه :" قَالَ الشعبي كَانَت درة عمر أهيب من سيف الحجاج وَلما جيء بالهرمزان ملك خوزستان أَسِيرًا إِلَى عمر رضى الله عَنهُ وَافق ذَلِك غيبته عَن منزلَة فَمَا زَالَ الْمُوكل بالهرمزان يقتفى أثر عمر حَتَّى عثر عَلَيْهِ في بعض الْمَسَاجِد نَائِما متوسدا درته فَلَمَّا رَآهُ الهرمزان قَالَ هَذَا وَالله الْملك الهنيء عدلت فأمنت فَنمت وَالله إني قد خدمت أَرْبَعَة من مُلُوك الأكاسرة أَصْحَاب التيجان فَمَا هبت أحد مِنْهُم هيبتي لصَاحب هَذِه الدرة." (1)
هذه الرواية عبارة عن اسطورة ظهرت في مطلع القرن الخامس الهجري ، ولم تذكرها المصادر الإسلامية المبكرة سواء التاريخية او الأدبية او كتب الانساب والطبقات والتراجم وأول من أشار اليها هو الثعالبي وقد نسبها الى الشعبي من دون ذكر اسانده اليه مما يضعف الرواية .
وقد وردت هذه الرواية في كتاب فتوح الشام الذي ينسب للواقدي محمد بن عمر الاسلمي مولاهم المتوفى سنة (207هـ/914م).(2) ، ويلاحظ على هذا الكتاب أنه كتب في سنة (907ه ) بعد وفاة الواقدي بسبعة قرون ويلاحظ أيضا انه يحمل الطابع الاسطوري الذي لا يعرفه الواقدي كما ان فيه اشارات الى شخصيات من القرن السابع الهجري ( أبو مدين وأبو الحجاج). (3) مما يكاد يجزم بأن الكتاب بحالته التي وصل الينا بها ليست للواقدي ، وقد دخلها الأسطورة في الغالب في القرن السابع الهجري.
والقصة أوردها مؤلف كتاب فتوح الشام(4) بالصيغة الاتية : قال : بلغني ولم يسندها، أن هرقل أرسل رجلا للمدينة بغرض قتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وأن هذا الرجل اختبأ فوق شجرة حتى نام عمر فلما هم بالنزول لقتله، إذا بسبع أقبل من البرية وطاف حول عمر وجلس عند قدميه يلحسهما وأقام حتى استيقظ، فعندها نزل وقبل يد عمر قال له: يا عمر قد عدلت فأمنت".
والقصة بالطبع لا تثبت إذ ان المؤلف المجهول رواها بلاغا من دون سند ، هذا وذكرت التاريخ قصة مجيء الهرمزان أسيرا ومحاورته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولم يذكروا هذه الرواية. مما يؤكد عدم نسبتها إليها. (5)
وقد روى ابن سعد في الطبقات بإسناد عن أنس أن الهرمزان رأى عمر بن الخطاب مضطجعا في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: هذا والله الملك الهنيء. (6)
وقد علق سيد محمود القمني على هذه الرواية وأمثالها بما نصه : " والخليفة الثاني صاحب لقب العادل ؛ وصاحب مجموعة المأثورات الشفاهية التي يكررها مشايخنا علي أسماعنا دلالة عدل وسلام ساد البلاد والعباد ؛ هو نفسه من استعبد شعوبا بكاملها ومات مقتولا بيد واحد ممن تعرضوا للظلم والاستعباد أثناء خلافته "(7) .
وقد حاول الدكتور فرج فودة تقريب هذه الحقيقة لأذهان الناس ومنها على سبيل المثال إنكاره قصة.."حكمت فعدلت فنمت فأمنت يا عمر".. وشرح للناس كيف أن العدل لا يلزمه الأمن بالضرورة، فعمر نفسه مات مقتولا، وأمثاله في التاريخ الحديث غاندي ومالكوم إكس، وعلى النقيض جبابرة كموسوليني وستالين وصدام حسين ، حكموا عشرات السنين آمنين رغم ظلمهم، ربما أن الدعوة للعدل تتصادم مع هوى المتعصبين المتشبعين بالأحادية الفكرية وبالتالي أي عدالة معهم تعني حق الآخر منهم، وهي إهانة شخصية لا تغتفر تستوجب بالنسبة لهم عقاب المخالفين. قال فرج فودة في حكاية نوم عمر تحت الشجرة وقولة الهرمزان عدلت فأمنت فنمت يا عمر :
"ولعل القارئ يرى معي أن القصة بتفاصيلها السابقة نموذج رائع للعدل الذى يقود إلى الأمن والأمن الذى يقود إلى الأمان وأنها مثال لما يجب أن يكون عليه ولى الأمر العادل لولا أن الشيء الحلو لا يكتمل كما يقولون وأنه لكى تكتمل الصورة بوجهيها علينا أن نذكر القارئ بأن عمر نفسه مات مقتولا على يد فيروز الغلام المجوسي وكنيته أبو لؤلؤة وأن قتل عمر قد تم في المسجد حيث كمن له الغلام وطعنه وهو يستدير لكى يبدأ صلاة الفجر منهيا حياة الخليفة العظيم عدلا وقدرة وزهدا مثبتا أن ما فعله عمر وما كان في العادة يفعله إنما كان قصورا في اجراءات الأمن وأن العدل ليس دائما وسيلة الأمان وأن النوم في ظل شجرة والحركة دون حراسة في وسط الرعية أو حتى في المسجد ذاته أمر لا يصلح نموذجا لحاكم إلا إذا كان الحاكم من هواة الاستشهاد ولعلي لا أنهى حديث هذه الواقعة دون ان اذكر أمرا يمكن احتسابه ضمن سخريات القدر أو مفارقاته العجيبة فقد قتل عبيد الله بن عمر(8) ثلاثة ظن بهم التآمر على قتل أبيه وكان أولهم الهرمزان(9) صاحب الرواية التي بدأنا بها الحديث" (10) .

ينظر:
(1) الثعالبي، أبو منصور عبد الملك بن محمد بن إسماعيل (ت 429هـ/1035م)، ثمار القلوب في المضاف والمنسوب ، دار المعارف ، القاهرة- بلا ت. (ص: 85) ؛ الزمخشري : ربيع الأبرار ونصوص الأخيار (4/ 13) .
(2) فتوح الشام ، الناشر: دار الكتب العلمية ، الطبعة: الأولى، بيروت- 1417هـ / 1997م .(1/ 85). (1/ 85، 292).
(3) مؤلف مجهول : فتوح الشام (1/ 290).
(4) مؤلف مجهول : فتوح الشام (1/ 85).
(5) ابن سعد، محمد بن سعد الزهري مولاهم (ت 230هـ/837م)، الطبقات الكبرى، تحقيق : إحسان عباس، دار صادر، (بيروت ـ د.ت). (3/ 293)،(5/ 89) ؛ البلاذري، أحمد بن جابر بن يحيى، (ت 279هـ/885م)، انساب الاشراف، تحقيق: سهيل زكار ورياض الزركلي، ط1، دار الفكر، ( بيروت- 1996م).(10/ 346)؛ المبرد، أبو العباس محمد بن يزيد الأزدي، (ت 285هـ/982م)، الكامل في اللغة والأدب، مؤسسة المعارف، (بيروت ـ 2002). (1/ 167) ؛ ابن عساكر، علي بن الحسن الشافعي، (ت 571هـ/1277م)، تاريخ مدينة دمشق، دراسة وتحقيق: علي شيري، دار الفكر ،(بيروت ـ 1995). (44/ 319).
(6) الطبقات الكبرى (3/ 293)،(5/ 89) ؛ البلاذري: أنساب الأشراف (10/ 346)؛ المبرد : الكامل في اللغة والأدب (1/ 167) ؛ ابن عساكر: تاريخ دمشق (44/ 319).
(7) ينظر : دولة الاستعباد التام أو الموت الزؤام ، الحوار المتمدن-العدد: 3862 - 2012 / 9 / 26 .
(8) عبيد الله بن عمر بن الخطاب العدوي القرشي: صحابي، من أنجاد قريش وفرسانهم. ولد في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأسلم بعد إسلام أبيه. ثم سكن المدينة. وغزا إفريقية مع عبد الله بن سعد. ورحل إلى الشام في أيام علي، فشهد صفين مع معاوية ، وقتل فيها سنة (37 هـ / 657 م). للمزيد يراجع عنه ابن سعد: الطبقات الكبرى5: 8 .
(9) ابن سعد : الطبقات الكبرى (3/ 350) ؛ البلاذري : أنساب الأشراف (2/ 294).
(10) ينظر : فرج فودة ، قبل السقوط ، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة - 1985 . ص 9.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي