الفلسفة كعلاج في افكار الفيلسوف الالماني فريدرك فيلهم نيتشة

محمد احمد الغريب عبدربه
2023 / 11 / 7

المقدمة
هل يذهب احد الافراد الي عيادة للعلاج عن طريق الفكرة والروح الفلسفية ويقابل فيلسوفا يحمل سماعته وكتبه التي تحوي افكاره الفلسفية، لكي يتلقي منه بعض الافكار الفلسفية ويتحاور معه في حوار عقلي وجدلي من اجل الراحة الذاتية والنفسية والتخلص من الألم والتعقيدات الغير محببة، فيكون الفيلسوف بذلك معالجاً وطبيباً للانسان، الامر يبدو غريبا علي البعض، ولكن تاريخ الفلسفة شهد كثير من الفلاسفة التي اعتبرت افكارهم علاجا للذات واصلاحها والاهتما بصيانة نفسية الفرد، وهذه الافكار الفلسفية سعت بكل جدية لأيجاد إجابات للتساؤلات الجوهرية في الحياة والتي مثلت معضلات كبيرة وأرهاق عقلي لأي إنسان، فكانت معه طوال اليوم، تتجادل مع عقله ونفسيته ولغته وخياله ووعيه وذاته، فكانت مثل الهواجس العقلية والخيالية والنفسية تنشط بشكل دائم مع الانسان، وتعلقت هذه الاسئلة بالوجود وومصيره وحياته، وعلاقته بالاله، وبالاشياء كانت اسئلة عامة لديها صفة العمومية في علاقتها بالانسان، ولعل سقراط من اوائل الفلاسفة المعالجين في التاريخ، حيث حث علي اهمية البحث عن المعرفة الحقيقة والبعد عن ادعاء العلم والمعرفة بشكل كاذب وغير حقيقي، وايضا افلاطون الذي اسس لنوع من الفلسفة العلاجية عن طريق الحوار العقلي والفلسفي[ مصطفي النشار، العلاج بالفلسفة، صحيفة الاهرام، 5/7/2009. العدد: 44771.]. هذه محاولات الفلاسفة للوصول الي أرضية علاجية للانسان، لتصبح الفكرة الفلسفية طريقا للعلاج الروحي والفكري والعقلي والنفسي للذات.
والفيلسوف الألماني نيتشة كمثله من الفلاسفة الذي ذكر بعض منهم أعلاه، اراد للفرد حياة صحية وسعيدة، وتمني ان يقدم له وجبة افكار دسمة لكي يتخلص من معضلاته الحياتية، وكانت لافكاره والموضوعات التي اهتم بها علاقة بدوره العلاجي للذات، فكان من أبرز الممهّدين لعلم النفس وكتب كثير من الافكار والكتب حول الدين والأخلاقية والنفعية والفلسفة المادية والمثالية وقد اهتم ايضا بالقيم السائدة عبر التاريخ ودراسة الضمير والوعي، وهذا الاهتمام بالبعد القيمي والديني والاخلاقي والنفسي يؤكد أن يتم اعتبار نيتشة من أهم المعالجين بالافكار الفلسفية، فمثلا في كتابه هكذا تكلم زرادشت، تحدث عن إنسان قوي في ابعاده الثلاثة جسدياً وعقلياً وروحياً، وتحدث في هذا الكتاب ايضا عن رؤية مستقبلية أخلاقية للذات، وهذا الكتاب مثل باقية كتبه به كثير من الافكار التي تعني بالبعد العلاجي للذات، وايضا اهتم نيتشة بالنزعة الفردية، والفرد، وأعطي لهذا الموضوع اهتمام كبير وصياغات كثيرة ومتنوعة، فالبعد الفرداني في فلسفته واضح للعيان، وهذه النزعة تؤكد علي رغبته الدائمة في الاهتمام بالذات وأن يقدم لها وصفات سحرية مليئة بالحلول والابتكارات للذات والعقل الانساني، فنيتشة بمطرقته الحادة النقدية اصبح فيلسوفا يمسك سماعة طبية ويرتدي بلطو الاطباء لمعالجة معضلات الانسان، وتقوية ذاته، فكانت الطوابير متراصة أمام عيادته، وشاربه أصبح ملئ بروائح المرضي، انها عيادة نيتشة العلاجية، إعلانات العيادة والعروض المجانية تضمنت معالجة الذات من النرجسية المرضية والضعف والوهن ومواجهة جميع الأفكار التي تتعلق بالتخدير والسيطرة علي الانسان لمصلحة قوي خفية.
ويستخدم نيتشه في مؤلفاته جهازا مفاهيميّا ينتمي إلى مجال الطبّ أو على الأقلّ ينتمي إلى تصوّراته كفيلسوف طبيب. وهكذا ففي المتن النيتشوي يتكرر مفهوم “علاج”، بل نجد تمييزا بين أصناف العلاج، كالعلاج الساذج والعلاج الخاطئ والعلاج الجذري. كما نجد تكاثرا في مواقع الصحة والمرض والألم والمعاناة. ويرى نيتشه أنه يجب على الفيلسوف أن يكون فزيولوجيا وطبيبا كي تكون له القدرة على أن يبلغ الأعماق بمعني حالة الجسد. ولعلّ ذلك ما ذهب إليه david farrel krell من أن الفزيولوجيا هي أهم تقنيات الجينالوجيا. كما يبرر جملة من الأحكام الأخرى التي تتحدث عن فلسفة نيتشه الطبية وعن منهج إكلينيكي نيتشوي .
ونحاول هنا تقديم بعض الافكار والدلالات العلاجية لنيتشة وهي مجرد رؤية سريعة بانورامية تكشف وتسليط الضوء دون التفصيل الواسع، فاهتماماته بالجانب العلاجي كان محوره الذات والفرد، حيث اشار إلي عدة ملاحظات بخصوص تقوية الذات وجعلها مزدهرة ونشيطة ومتفقة مع طبيعة الحياة، ومن هذه الملاحظات فسر الشعور بالنرجسية وتحولاتها الايجابية والسلبية، وأيضا لفت الانتباه الي أهمية العيش البطولي والسرد المحلمي للذات، وتفكيك مفهوم الوعي، ومحاولة فهمه جيداً، ثم اشار في سياق تقوية الذات إلي مبدأ تقبل الخسارة المواصلة في الحياة، والاخلاق التجريبية، انتقاد فعل الانتقام.
هناك رؤية حضارية علاجية لنيتشة، وركائز تقوية ذات الانسان، وايضا

أولاً: تقوية الذات
سعي نيتشة خلال بعض أفكاره إلي الاهتمام بالدور العلاجي، حيث يعتبر نيتشة الأنسان حيوان مريض، لذلك يجعل من مهمته كفيلسوف طبيب و معالج جينيالوجياً كشف الوجوه المسمومة و الذوات الإنسانية التي لحقها السقم و الوهن فأضحت مترهلة و كأنها في أرذل العمر. فوسيلته في العلاج تقتضي توظيف مطرقة النحاث و مطرقة الطبيب، حيث قال: " أنا لست إنساناً أنا عبوة ديناميت أتفلسف بضربات المطرقة[المعانيد الشرقي، الفلسفة كعلاج - فريدريك فلهلم نيتشه نموذجاً -، موقع الحوار المتمدن-العدد: 5277 ، 2016 / 9 / 6 . ]. وفي ذلك السياق حاول فحص ذوات الافراد، وتحدي الاراء التي كانت ترفض ذلك واعتبر مفهومه لتقوية الذات وترسيخها احد اعرض النرجسية المحضة، وسعي نتيشة إلى تطوير مفهوم أكثر توازنا وصقلا لفكرته عن تأسيس وتقوية الذات من خلال إعادة النظر في ثلاثية مهملة للروح الحرة للانسان من خلال كتبه أنسان مفرط في انسانية ، فجر العلم، والبعض اللذين قرأوا نيتشة وانتقدوه وشرحوا افكاره، وجدوا ان اتجاهه حول تقوية الذات ، يعتمد علي الفكر الهلينستي والروماني للفلسفة العلاجية، واقترحوا أن هذا التقليد العلاجي لنيتشة تبلور من خلال رؤيته النقدية الخالصة حول النرجسية وتحولاتها، فهو يسعي لاعادة بناء أخلاقيات الذات من حيث تحليله النفسي للأعراض المرضية للنرجسية وتحولاتها الصحية أو الإيجابية. ومسار نيتشة في نقد النرجسية المرضية، ومحاولاته لعلاج ذلك ببناءه أساس نفسي وفلسفي كان مبني علي نقد الافكار الاخلاقية لروسو وشوبنهاور. واعتمد في ذلك علي بعض الافكار مثل فكرة الصداقة، والكوميديا والفكاهة[ Ure, M. Nietzsche s Therapy: Self-Cultivation in the Middle Works. Lanham, MD, USA: Lexington Books, 2008.
].
وفي سياق الحديث حول الذات وطرق تقويتها لدي نيتشة يجب التعرض للعدد من المفاهيم الاخري التي ترتبط بمفهوم الذات مثل مفهوم الوعي وتطوراته التي يمر بها، ومفاهيم تتعلق بأمراض نفسية تصيب الذات من نرجسية وغرور، وقام نيتشة كثيرا بالدعوة نحو العيش البطولي، والسرد الشخصي، والسعي نحو الملاحم، وانتقد بشدة المواقف السلبية للذات والنفس من ردود الافعال الغير منضبطة مثل فعل الانتقام الذي لا فائدة منه اطلاقاً، ويشير نيتشة إلي أهمية أيضا كيفية التعامل مع الوهن الذي يصيب الذات .
ويجب التعرف علي الاغراض النفسية لنظام الوعي الخاص بالافراد، والتلاعب الذي يحدث في طاقات نظام هذا الوعي الخاص بنا، وايضا وعي الافراد، وكان نيتشة يضرب امثلة علي أهمية الوعي للفرد لفهم الاشياء التي يجب الاهتمام والتي تتعلق بحياته[David Frost, Nietzsche’s Therapy, philosophy now,ipid.]. فمعرفة ابعاد الوعي وتفاصيلها لها دور في فهم تحركات الذات. ويفهم اهتمام نيتشة بالذات من خلال اهتمام نيتشة بصفة الغرور، وفكرة النرجسية، التي اهتم بها فرويد فيما بعد.
وتتعرض الذات للعديد من اوقات الضعف والوهن، والانسحاب نتيجة لكثير من الامور والاشياء التي تمر في الحياة نتيجة للصراعات الدائمة مع الآخرين، ومع الأشياء، ولذا ينصح نيتشة بالاهتمام بتقوية الذات عبر فهم هذه الصراعات والنتائج التي تأتي تبعاً لها، وذلك بفهم واضح وأكيد، وبناءاً علي ذلك يأتي فكر العلاج عند نيتشة فيما يتعلق بفكرة قبول حتمية الخسارة، والطريقة المناسبة للتواصل مع اشخاص أخرين، وتعتبر هذه النصائح والافكار ذات طبيعة نفسية، ولديها روح ونظريات فلسفية ركز عليها نيتشة، ومعالجة الافكار التشاؤمية حول الخداع والخسارة. ويعتبر بذلك نيتشة طبيب معالج افكار البشر، وقد اشار الي تشاؤوم جديد هو التشاؤوم الدنيسيوسي. [ Nietzsche’s Therapy: Self-Cultivation in the Middle Works,ipaid,pp159.]
وفيما يتعلق بمفهوم العيش البطولي، أكد علي اهمية أن يعيش المرء وفقا للسرد البطولي الخاص به، وبأسلوب شخصي وذاتي. فكان يدعو الي المغامرات المتعددة للافراد من أجل العلو والتحدي، والاستمرار، فكان يمدح من دور وحياة البهلوان الذي يسير علي الحبل، فهو يضع حياته في خطر ومغامرة من أجل فعل يعيش من ورائه، فهو دور مهم ويتحدي به الحياة.
وفي سياق تجاوز فعل الانتقام اهتم نيتشة بفهم فعل الانتقام، وكان ذلك في تشريحه لمفهوم السيادة والسلطة السياسية، والعمليات النفسية التي تتعلق وتنطوي في هذه المفاهيم، فكان نيتشة يتصور أن الانتقام يبدو ويظهر عن الفرد كأنه مرض وحمي تنتهك الروح التي يجب علاجها روحيا ونفسيا منه، ويشير نيتشة إلي أهمية أن يعد الفرد نفسه ليتخلص من فعل الانتقام، حتي لا يكون مرضا في حد ذاته، أو يكون في مساحة اكثر من المسموح بها نفسيا.[ Nietzsche’s Therapy: Self-Cultivation in the Middle Works,ipid,pp162.] وذلك تحرر الذات من هذه المساحات الظلامية لتحرك فعل الانتقام بها، وتصبح اكثر صحة ورشاقة، واستمراراً وقوة في الحياة.
وأخيرا في سياق محور تقوية الذات، يمكن ملاحظة أن نيتشة في عرض افكاره للعلاج ونصائحه للاطباء الفلسفيين، او اللذين يحاولون العلاج بالافكار الفلسفية، وتطويرهم علاجهم وافكارهم، وعمل توصيات للعلاج، وفقا للاختبار التجريبي، يشير دائما الي الرجوع الي الفكر الهليستني للاستفادة من الافكار والمبادئ الاخلاقية وقتها، ويمكن تحويل كل المدارس الاخلاقية كمختبرات تجريبية، وذلك للخروج بأفكار حول فن العيش، وعدم الاكتفاء بالاخلاق كشئ يتعلق بالذات نظري ونفسي داخلي، ولكن أن تكون هذه الاخلاق دائما مرتبطة بالواقع والتجريب والحياة، وليس فعل تخيلي نظري.
ثالثا نقد نيتشة للعلاج الكهنوتي:
إن ما يستعمله وما يوظفه الكاهن في تأسيسه للأخلاق يسميه نيتشه تطبيبا وعلاجا، لكنه تطبيب كهنوتي. لكن حماة هذا التطبيب من كهنة وقساوسة يسببون بعلاجهم المزيد من المرض، ويجعلون الإنسان المريض اكثر مرضا. فالكاهن الطبيب يجلب معه البلسم والعلاج. حيث عليه أن يجرح قبل أن يقوم بالعلاج كطبيب، فيسمم الجرح في نفس الوقت الذي يهدئ فيه الألم الناتج عن ذلك الجرح. إنه يتقن هذا العمل، هذا الساحر والمروّض للسباع، الذي يصير كل من يغالطه من الأصحاء مريضا. إن نقد نيتشة للكنيسة وللقساوسة راجع إلى كون العلاج الذي يصفونه للحالات المرضية أخطر بكثير من المرض الذي يرجى التخلص منه. بل إن الإنسانية كلها لا تزال تعاني من تبعات هذا العلاج الساذج الذي تخيله القساوسة.ـ يعتبر الفيلسوف نيتشه أن المسيحية كنز كبير يزخر بأشد موارد التعزية عبقرية، بل هي التي تخدر الأعصاب، باستعمالها أدوية خطيرة ومتهورة.[ تفروت لحسن، جينالوجيا العلاج الكهنوتي في فلسفة نيتشه، موقع الاوان، 8/12/2013.].
ويعتبر نقد نيتشه للأخلاق المسيحية هو كشف عن الأعراض المرضية التي تشلّ الحياة وتفقدها معناها، فالأخلاق باعتبارها مضادة للطبيعة الإنسانية تسير ضدّ غرائز الحياة. فأمر الحياة ينتهي حيثما تبدأ مملكة الربّ، فهذه الطبيعة المضادة نفسها، التي هي الأخلاق، والتي تضع الإله نقيضا وإدانة للحياة، ليست في حد ذاتها إلا حكم قيمة على الحياة. الحياة الآفلة والضعيفة والضجرة والمذمومة. وهذه الأخلاق هي غريزة الانحطاط نفسها .ويوضح نيتشة أن الأخلاق هي الفارماكون، العلاج الذي يضمر في أعماقه السمّ، وهي المهمة التي ظل الكهنة يقومون بها. ولما كانت مهمة نيتشه هي قلب القيم المريضة بما فيها قيم الحداثة ومنها العقل والحرية، فإن ذلك يستدعي تشخيص العلاجات الفاسدة التي اعتمدها دعاة التطبيب الكهنوتي بمختلف ألوانهم وبتعدد مراتبهم وتنوع أقنعتهم. وهذه المهمة هي التي جعلت الفيلسوف الطبيب نيتشه يبدأ في عرض مختلف أشكال الوصفات والجرعات الطبية التي تبناها الكهنة للانتقام من الحياة وإضعاف البشرية وجعل الإنسان أكثر مرضا. ومن الاشكال السلبية التي لفت لها الانتباه نيتشة في العلاج الكهنوتي، أولا الشعور بالذنب كوصفة علاجية أولي، حيث كان الغرض الخفيّ للكهنة هو ترويض الإنسان وإلجام غرائزه، بل وقمع رغباته الطبيعية، فإن الطبيب الكاهن ابتدع “الشعور بالذنب”. إذ بهذا الابتكار أفلح في جعل كلّ غرائز الإنسان “المتوحش”، الحرّ والجوّال تنقلب ضدّ الإنسان نفسه. وايضا يشير نيتشة إلي إن ظهور القيم الأخلاقية هو نتاج القسوة ضد الذات، إنها حاصلة عن طريق تعذيب النفس. ويوضج نيتشة إلي إن الإنسان ابتدع الشعور بالذنب ليعذب نفسه، واتخذ الانسان من فكرة كونه مدينا للربّ أداة لتعذيب نفسه وايضا للابتعاد عن العالم والتنكر له والبحث عن الراحة بالهروب من الأمور اليومية. هذا هو العلاج الذي يقترحه الفلاسفة "أنصاف الكهنة"، ويشير نيتشة ان هذا العلاج لا يولد سوى المرض لأن في التنكر للعالم تنكرا للحياة وعداء لها[ تفروت لحسن، المرجع السابق. ].
وفي سياق نقده للاخلاق المسيحية، ودورها في صنع المرض، يلاحظ ان هذا النقد جاء علي اساس بعد نفسي، وكان بيبرهن بذلك علي وجود كثير من الطرق المؤكدة للحياة والتفكير. وذلك يعجلنا نري أن تحليل نيتشة الجنيالوجي للمسيحية كان مثير للاهتمام. وكانت لنيتشة رؤية نفسية بإن هناك رغبة في الأخلاق المسيحية لتشويه القوة في الحياة وفعل الانجاز والتحدي. ومن الطبيعي يؤكد نيتشة أنه لا يمكن تفسير كل شئ يحدث أن يحدث بطريقة خارقة، أو أنه شئ خارق، وهو يدعو لفهم الحياة والنضال من أجلها، فهو علي سبيل المثال وليس التحليل يدعو نيتشة إلي الاهتمام بأتباع نظام معين في الحياة وتفاصيل الاشياء، والاهتمام بالحياة اليومية، وليس الاهتمام باللاهوت والفلسفة بشكل عام وبشكل نظري، والاهتمام ايضا بعلم وظائف الاعضاء وعلم النفس، وفي سياق ذلك تعتبر الاخلاق النيتشوية نوع من تحقيق الذات، وصنع فردية قوية ومزدهرة للفرد. وفي الوجه المقابل من الاخلاق المسيحية التي ترفض القوة، وففي عالم بلا قيم، نيتشة يؤكد علي اهمية كفاحنا لصنع قيمنا الخاصة، التي تؤكد الي وجودنا القوي علي خصائصنا اللاوعية الفريدة ووعينا الشخصي، حيث يتم التقاء الفرد مع ذاته، دئما والبحث عن قوة الفرد لذاته[ David Frost, Nietzsche’s Therapy, philosophy now, issue : 119, apr 2017.
https://philosophynow.org/issues/93/Nietzsches_Therapy
].
ولا يري الفيلسوف نيتشة وجود اي نزاع ضروري وواضح بين قيامه بنقد الاخلاق القديمة والعالمية، وطرقه للعلاج الفلسفي للذات والافراد، حتي انه معدل نقده للاخلاق تكون في معدل قيامه بطرح افكاره العلاجية، وهنا تظهر الاشكالية للعلاقة بين هذا النقد الاخلاقي النيتشوي وطرقه للعلاج الفلسفي. وافكار نيتشة لنقد الاخلاق العالمية والالتزام والقوانين الاخلاقية لسبيين، الاول انها تتوافق مع المبادء الميتافزيقيا، وهو ينادي بهدم الميتافزيقيا، ويشير الي اهمية وجود أسس طبيعية، للافكار والاخلاق، ويشير نيتشة انه تعارض مع الاخلاق الموضوعة، لأن يجب للفرد ان لا يقوم بافعال ويكون هناك اتصرفات تعسفيه ضد هذه الافعال، ومبررات نيتشة تؤكد أنه يجب ان تكون للافراد والجماعات حريات في وضع القوانين الخاصة بهم التي تناسب مصلحتهم الخاصة وذلك يؤدي الي حياة قوية ومزدهرة. وتكون شرعية المطالبات الاخلاقية تعتمد، [ Nietzsche’s Therapy: Self-Cultivation in the Middle Works,ipid,pp 6.].
وفي سياق نقده للعلاج بالفكر الكهنوني والديني، والاخلاق والقيم التقليدية والقديمة، وتوجه نيتشة الي نقد كل الافكار الفلسفية القديمة، واشار إلي أن عدوم وجود فلسفات قديمة او معرفة حقيقة او خبرة حول صحفة النفس والفرد وامراضها، وانه هناك شكوك خطيرة ونقد حاد جول اللذين قدموا انفسهم كأطباء للروح، لم يفهموا الابعاد الحقيقية لامراض الفرد والذات، رغم انهم ادعوا عكس ذلك، وانهم اسهموا في اصابة البشرية بكثير من الامراض الصعبة[ Michael Ure,Nietzsche and Political Thought, Monash University (London: Bloomsbury, 2013)pp3.].

رابعا علاج اللغة عند نيتشة
تعرض نيتشة الي مفهوم اللغة، وطرق اعاقتها، للفهم والتخلص من الاخلاق القديمة والكهنوتيه، وكان ذلك متقاربا مع فكر الفيلسوف فتجنشتاين بخصوص فلسفته حول اللغة، حيث أن مهمة الفيلسوف في اعتقاد فيتجنشتاين تتمثل في حسم هذه التساؤلات المتعلقة بالألعاب اللغوية أي إظهار أنها نابعة من خلط نوع ما فنحن مسحورون ببنية لغتنا، وكانت مهمة الفيلسوف هي تنويرنا من خلال الفصل بين مختلف استخدامات الكلمات. فنظرًا لوجود درجة حتمية من التجانس والتماثل بشأنها، تميل اللغة إلى جعل أنواع مختلفة من الكلام تبدو متماثلة وذلك كان في كتابه تحقيقات فلسفية الذي ذييل فيه بمقولة "سوف أعلمك الاختلافات" وهذه المشكلة اللغوية والاغاليط حولها لم تكن مقتصرة على فيتجنشتاين وحده. فقد توقعها أحد أعظم فلاسفة القرن التاسع عشرأجمع وهو الفيلسوف نيتشة.
وتسائل فريدريك نيتشه، عندما تساءل عما إذا كان السبب في فشلنا في التخلص من فكرة الإله يُعزى إلى قواعدنا اللغوية. فلما كانت قواعدنا اللغوية تتيح لنا تركيب وإنشاء الأسماء والتي تمثل كيانات متمايزة فإنها تجعل من المقبول أيضًا أن يكون هناك إمكانية لوجود نوع من اسم الأسماء — أي كيان خارق يعرف باسم الإله — والذي بدونه قد تتداعى جميع الكيانات الصغيرة الأخرى المحيطة بنا. غير أن نيتشه لم يكن يؤمن بالكيانات الخارقة ولا بالكيانات العادية. فقد كان يعتقد أن مجرد فكرة وجود أشياء مختلفة — مثل الإله أو ثمار عنب الثعلب — كانت مجرد تأثير تجسيدي للغة. ولا شك أنه كان يؤمن بذلك فيما يتعلق بالذات الفردية، والتي لم يكن يراها أكثر من مجرد خيال مريح. وكما أشار ضمنًا في الملحوظة المذكورة أعلاه، ربما هناك قواعد لغوية بشرية لم تكن هذه العملية التجسيدية متاحة فيها. ربما تكون هذه هي لغة المستقبل التي سيتحدث بها الإنسان الخارق الذي تجاوز كليٍّا حدود الأسماء والكيانات المنفصلة، ومن ثم تجاوز فكرة الإله والأوهام الميتافيزيقية المشابهة[ Terry Eagleton, The Meaning of Life. Oxford University Press (2007), pp17.].
خامساً فهم معني الحياة
بجانب مفهومه حول الذات الذي تم الالتفات اليه اعلاه ، نلاحظ أن للحياة عند نيتشه مفهوم أساسي، بل هي الحجر الأساسي لفلسفته التي تهدف إلى خدمة الحياة. حيث يرتبط مفهوم الذات مع مفهوم الحياة . ويشير نيتشة إلي أهمية الحياة وأنه يجب أن نعيشها بمعاناتها وأفراحها، وأن لا نهجرها إلى عوالم الماورء كما فعل أفلاطون. بل إن مجمل نقد نيتشه للفلاسفة عامة ولسقراط خاصة، راجع إلى احتقارهم للحياة وهروبهم من الواقع، هذا ما نستخلصه من قول نيتشه "لقد حمل أعظم الحكماء في كل عصر نفس التصور عن الحياة : إنها عديمة القيمة….سقراط نفسه قال لحظة احتضاره : ما الحياة سوى مرض عضال". وحتى نقد نيتشه للتاريخ في كتابه “منفعة ومضار التاريخ للحياة” فهو نقد للمرض التاريخي باعتباره المسؤول عن إفقار الحياة، ولأنه يسير ضد الحياة. لكن يجب التمييز بين مظهرين للحياة، حياة مزدهرة فزيولوجيا والتي تتصف بالتكاثر في القوة وبالوفرة في الجمال والفرحة، وبين الحياة الضعيفة والمنحطة والتي تكون سمتها المعاناة والمرض والقبح[ لحسن تفروت، بعض الأصول الفلسفية لـ”علاج النفس بالمعنى، موقع صحيفة الاوان، 5/1/2015. ].
وقد اهتم الفيلسوف الانجليزي والناقد الثقافي والادبي تيري ايجلتون بمعنى الحياة ويقول في نص كتابه المعنون بمعني الحياة "غير أنه من المحتمل أن يشكك الكثيرون من قراء هذا الكتاب في عبارة معني الحياة مثلما يشككون في وجود بابا نويل. فهو يبدو كمفهوم من نوع غريب، يتسم بالبساطة والروعة في الوقت ذاته، ويصلح للخضوع للانتقاد التهكمي لفريق مونتي بايثون. ويعتقد عدد كبير من المثقفين في الغرب اليوم على الأقل خارج نطاق الولايات المتحدة المتدينة بصورة تثير الدهشة أن الحياة عبارة عن ظاهرة تطورية عارضة ليس لها معنى متأصل أكثر من تقلب هوائي أو قعقعة في المعدة". ويضيف أيجلتون "غير أن حقيقة أنها ليس لها معنى محدد تمهد الطريق للأفراد من الرجال والنساء لتكوين أي معنى يمكنهم تكوينه لها. وإذا كان لحياتنا معنى، فإنه شيء يمكننا من خلاله استثمار هذه الحياة، وليس شيئًا تأتي مجهزة به. وتأسيسًا على هذه النظرية، ما نحن إلا حيوانات تجيد التأليف لنفسها، فلا نحتاج لتلك الفكرة التجريدية التي تعرف باسم الحياة لتكتب لنا قصصنا". ويلاحظ أن ايجلتون يدعو الي الاهتمام بالحياة، وتكوين النفس دون الانتظار وفهم هل هناك معني للحياة أم لا، وايضا يؤكد علي القدرة علي تشكيل الحياة ومعناه الخاص بكل فرد، والقدرة علي التواصل فيها، وهذا يتفق مع رؤية نيتشة الفلسفية حول الحياة ومعناها، حيث يسرد ايجلتون قائلاً في كتابه "فمن منظور نيتشه أو أوسكار وايلد، يمكننا جميعًا — فقط لو امتلكنا الجرأة — أن نكون فنَّاني أنفسنا البارعين؛ قطعة صلصال في أيدينا في انتظار تشكيل أنفسنا في شكل فريد إلى حد الإتقان"[ Terry Eagleton,ipid,pp37].
ويتناقش تيري ايجلتون في معني الحياة، حول مفهوم القوة، ومبعثه عن نيتشة، ويحاول ان يفهم ان القوة ليس ي حد ذاتها مغزي قوي في فهم الحياة وتطبيقها في الواقع بشكل مباشر وجذري، حيث يقول "من ثم فإن إمكانية أن تكون القوة هي معنى الحياة قد يبدو أمرًا محل شك؛ غير أنها مورد بشري ثمين، كما يعي من لا يملكونها. وكما هو الحال بالنسبة للثروة، فإن هؤلاء الذين يملكون القوة هم فقط من يملكون ازدراءها. فكل شيء يعتمد على من يستخدمه، والأغراض التي يستخدمه فيها، وفي أي مواقف". حيث يشير انها مهمة ولكنها ليس المعني الاخير والمهم في استمرار الحياة، وهي احد الابعاد، ثم ينتقل الي مناقشة فكرة القوة مع افكار نيتشة، ويقول سارداً " ولكنها لا تبدو غاية بالمعنى النيتشوي، الذي يعد « القوة » في حد ذاتها أكثر من الثروة؛ ما لم تتعامل مع أقرب لفكرة تحقيق الذات منه إلى فكرة السيطرة والهيمنة. (هذا لا يعني أن نيتشه كان في فكر نيتشه يعني نزعة « إرادة القوة » يحمل أي بغض لجرعة قوية من الأخيرة). إن كل الأشياء لإدراك وتوسيع وتقوية نفسها؛ ومن المنطقي أن ننظر إلى هذا كغاية في حد ذاتها، مثلما ينظر أرسطو إلى ازدهار ونجاح الإنسان كغاية في حد ذاته"[ Terry Eagleton,ipid,pp88.].
وتأتي رؤية الفيلسوف الفرنسي لوك فيري المتشائمة للحياة، في اطار معني الحياة وهذه المناقشات حولها وفي سياق ايضا رؤية نيتشة ضد العلاج بالمسيحية، تأتي في اختلاف سمات وسائل العزاء المتخلفة للانسان، وافولها في عالم معلمن إلي اقصي الحدود، فالعزاء الذي تقدمه بعض حركات المواساة ليست كيفما كانت قيمتها، ويقول لوك فيري " فأذا لم تعد حكمة الديانات الكبري تلائم أزمنتنا الديمقراطية، وإذا كانت كل عودة تبدو مستحيلة فأننا لم نخترع رغم ذلك، أي شئ يمكن أن يقوم مقامها بشكل مقبول، وفي منظور الاخرويات الدينية، وبعيدا عن أن تكون علامة علي أنحطاط لا معقول وغير قابل للعكس، كانت الشيخوخة، إذا لم يكن ينظر إليها كمرادف للحكمة، فعلي الاقل كانت تشكل حد الشروط الضرورية لبلوغها. لقد كانت تحتل مكانا ساميا لا يمكن تعويضه، بين مختلف مراحل الحياة. وموكب الالام والمعاناة التي ترافقها كان يمكنه أن يعتبر كامتحان تمهيدي في حين أننا لم نعج نري فيه غير سلبية مطلقة"[ لوك فيري، الإنسان المؤلة أو معني الحياة، ترجمة محمد هشام، الدار البيضاء، افريقيا الشرق، 2002، ص8. ]. وهذا يعني ان لوك فيري يري ان الانسان تم تأليه في الحياة، وانه يجد صعوبة في فهم الحياة وأنه في عصر ملئ بالصعوبات، وهي رؤية متشائمة، ولكنها تتفق مع رؤية نيتشة في اطار الاخلاق، وهو ينتقد العصر الحالي ويقول " ويأتي هذا وفقا لسمات العصر التي تعاملت مع الاشياء والانسان دون وجعلته في مشقة متتالية، حيث أن معني الحياة قد اختفت إلي حد أن ذكراها البسيطة تبدو بالية تماما. اختفاء غريب فعلا، إذا تذكرنا أن هذا التساؤل كان علي امتداد قرون طويلة، في قلب علم يزعم توجيه الناس إلي الحكمة، لقد صار الفكر المعاصر علمياً وغدا العلماء يصفون العالم كما هو وليس كما ينبغي أن يكون، وليس هناك أيه حكمة تبرز من داخل أعمالهم. وهم لا يرغبون أبدا في ذلك، مقتصرين علي اقامة الوقائع والحقائق".[ لوك فيري، المصدر السابق، ص17. ] وتأتي هذه الرؤية في طرح معني الحياة، وهي تتشابك مع رؤية نيشتة في مناقشاته في معني الحياة، ولكنه لا تعطي بديلأ وطرحا للحياة نفسها.
سادساً: أهمية الالم النفسي
وفقا لنيتشة الالم والمصاعب هي خطوة نحو التحقق والنجاح وتحقيق الانجازات والسعادة في الحياة، لذا يجب التفكير في الالم بطريقة مغايرة ، وذلك يساعد في امر علاجي متعلق بمسألة الالم ضد الانسان، ليصبح عكس ذلك، فبحسب أشارة نيتشة، ثمة بعض العناصر التي يحتاج اليها البشر علي نحو طبيعي من اجل حياة منجزة، وقد اضاف تفصيلاً مهماً، أن من المستحيل تحصيلها دون عيش فترة بائسة جدا بعض الوقت ويقول نيتشة هنا " ماذا لو كانت السعادة والتعاسة مرتبطين معاً بحيث لابد لكل من يرغب بامتلاك اكبر قدر ممكن من احداهما أن يمتلك قدراً مماثلاً من الاخري، أمامك الخيار: أما أقل تعاسة ممكنة، وقدرا من الصبر... أو اكبر تعاسة ممكنة كثمن لتنامي فرط اللذائذ والمسرات اللطيفة التي نادراً ما يتم التمتع بها لو قررت المضي في الخياة الاول املا تقليص وتخفيض مستوي الالم البشري، يتوجب عليك كذلك تقليص وتخفيض مستوي قدرتها علي تحقيق السعادة" . حيث يعتبر أكثر المشاريع البشرية تحققاً تبدو غير قابلة للانفصال عن درجة ما من العذاب، ومصادر مسراتنا العظمي تبدو قريبة علي نحو غريب من مصادر الامنا العظمي[ Alain de botton, the consolation of philosophy, new work, vintage books, 2000,pp 156.].
ودائما الالم ما يكون مصاحبا لكل شئ في الحياة، فجميع الحيوات صعبة، وما يمكن من جعل بعضها منجزاً علي هذا النحو الدقيق هي الطريقة التي يتم فيها التعامل مع الآلام. كل ألم هو إشارة باهتة إلي أن ثمة ما هو خاطئ، ما قد يولد نتيجة سيئة أو جيدة، وذلك تبعاً لحصافة وقوة ذهن من يعاني. يمكن للقلق أن يحرض الهلع، أو تحليلاً دقيقاً لما قد انحرف. وقد يقود الأحساس بالجور الي القتل، أو الي عمل رائد في النظرية الاقتصادية. وقد يفضي الحسد الي المرارة، او الي قرار بمقارعة منافس او انتاج تحفة. ويقول نيتشة " لابد من ان نتعلم معاناة كل ما نعجز عن تجنبه. تتكون حياتنا مثل تناغم العالم، من نشازات علاوة علي نغمات مضبوطة مختلفة، ناعمة وقاسية، وحادة ومنبسطة، هادئة وصاخبة. لو احب موسيقي بعضها منها فقط، ما الذي يمكن ان يغنيه، ينغبي عليه معرفة كيفية استخدامها جميعها، ومزجها معاً وكذا ينبغي أن نتعامل مع الجيد والسئ، النابعين من جوهر واحد في حياتنا[ Alain de botton ,ipid,pp162.].
سابعاً : البستنة للنفس البشرية كعلاج للانسان
يدعو نيتشة الي الاهتمام بالنفس والعناية، بها، وفهم طبيعتها، فهو في هذا الاطار يشير الي فكرة البستنة في التفكير الفلسفي، فإذا طرح في مقاطع بعينها، أن علينا التعامل مع مصاعبنا كما يفعل البستانيون. عند مستوي الجذور، يمكن أن تبدو النباتات غريبة ومنفرة، ولكن الشخص الذي يمتلك المعرفة والايمان بامكانياتها سيدفعها الي حمل ازهار وثمار، وكذلك الامر في الحياة، عند مستوي الجذور، قد تكون ثمة مشاعر ومواقف عويصة يمكن لها ان تنتج، برغم ذلك، عبر العناية الحريصة، أعظم الانجازات والمسرات، ويمكن للمرء أن يتخلص من دوافعه الشخصية، كما يفعل البستاني، ويشير نيتشة أن قلة يتقنون هذا الامر، ويدعو نيتشة في سياق ذلك الي تهذيب اندفاعات الغضب، والشفقة، والفضول، والزهو، لتصبح هذه الامور والصفات متحكم فيها علي نحو منتج ونافع[ ipid,pp165.].
ثامناً : تناقضات الاشياء
أننا ميالون للاعتقاد بأن القلق والجسد لا يملكان أي شئ مشروع يمكن لهما تعليمه لنا، لذا نعمل علي استئصالها كما لو كانا اعشاباً عاطفية ضارة. نؤمن، كما يقول نيتشة، أن الاسمي لا يسمح له أن ينتج عن الادني، وليس مسموحاً له أن ينمو علي الإطلاق.. لابد لكل امر من المرتبة الاولي ان يكون مسببا لذاته. ومع ذلك وكما شدد نيتشة " الاشياء الخيرة والمبجلة مرتبطة، ومعقودة ومحبوكة علي نحو فني، بالاشياء الشريرة التي تبدو لها ظاهرياً، والحب الكراهية الامتنان والانتقام، السماحة والغضب.. تنتميان إلي بعضها بعضا، وهذا لا يعني أن من اللازم التعبيرعنها معاً، بل أن الايجابي قد يكون نتيجة للسلبي الذي تمت رعايته بنجاح. ولذا فأن "مشاعر الكراهية، والحسد والطمع، وشهوة الهيمنة هي مشاعر لازمة للعيش ينبغي، أساسا وجوهرياً، أن تكون موجودة في التدبير الكلي للحياة"، واستئصال كل جذر سلبي قد يعني، في الوقت ذاته، خنقاً للعناصر الايجابية التي يمكن أن تنبع منها وصولاً الي ساق النبتة[ ipid,pp166.].
تاسعاً:اهمية الرغبات
أهمية الرغبات في فهم الطبيعة والبشرية والتأقلم مع الذات والبعد العلاجي
تمتلك جميع الاهواء مظهراً محدداً عندما تكون مدمرة بالكامل، حيث تجذب ضحايا نحو الاسفل تبعاً لحجم الحماقة ومظهراً أخر لاحقاً، لاحقاً جداً، يعتنقون فيه الروح، أي يروحنون انفسهم. في الازمة السابقة، بسبب حماقة الاهواء، شن الناس حرباً علي الهوي بذاته، تآمروا علي تدميره تدمير الاهواء والرغبات لمجرد تجنب حماقتها، وتبدو لنا اليوم تلك العواقب غير المتفق عليها لحماقة ( تلك الاهواء والرغبات)، مجرد صغية حادة من الحماقة ذاتها. لم نعد معجبين بأطباء الاسنان الذين اللذين يقتلعون الاسنان لايقاف المها، ويتم تحقيق الانجاز عبر الاستجابة بحكمة الي المصاعب التي يمكن أن تمزق المرء الي اشلاء. قد تميل الارواح الموسوسة الي قلع الضرس فوراً[ Alain de botton, the consolation of philosophy,pp169].
وأخيرا واجمالاً علي ما سبق نجد أن نيتشه يمتلك في افكاره الفلسفية رؤية علاجية شاملة للأنسان والحضارة الانسانية، وهذه الرؤية مستقبلية وآنية أيضا، ويمكن ان تستمر عشرات بل مئات السنين، وهذه العلاجات النيتشوية طلبها أصبح ملحّاً، لإعادة قراءة الواقع المريض. وفي سياق ذلك تنبأ نيتشه بهذه الاهمية حينما قال "أكتب هذا التاريخ للقرنين المقبلين"، قرني الحروب. فالمعلوم أنّ نيتشه هو فيلسوف المطرقة، الفيلسوف الذي كشف باستخدامه مطرقة "الفيلسوف – الطبيب" أمراض الحضارة الغربية في كل تجلياتها، وعمل باعتماد "مطرقة النحات" على هدم وتفكيك كثر من هذه الامراض منها هدم الأوثان وتقويضها؛ وأيضا حارب نيتشة بكل شجاعة الأفكار الميتافيزيقية واللاهوتية العدمية التي تحارب الحياة وتجمد غرائز الجسد وتقتل الإنسان[ تفروت لحسن، جينالوجيا العلاج الكهنوتي في فلسفة نيتشه، موقع الاوان، 8/12/2013.].

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي