الثورة الفلسطينيّة طائر الفينيق/ ثائر لا يفنى وثورة لا تموت

الطايع الهراغي
2023 / 10 / 24

"من يعتقد أنّ باستطاعته الانتصار يستطيع أن ينتصر"
( فيرجيل)
"أحيانا يحسب المرء أنّ قصّة ما انتهت فإذا بها تبدأ"
(غسان كنفاني)
"أرانب غير أنّهم ملوك** مفتّحة عيونهم نيام".
( أبو الطّيّب المتنبّي)

رحم الله أبا الطّيّب المتنبّي .فقد كفانا عناء وصف ورصد ما عليه أمراء ممالكنا من وهن مضحك حدّ البكاء منذ قال فيهم قبل أكثر من عشرة قرون"أرانب غير أنّهم ملوك** مفتّحة عيونهم نيام".
والحقّ كلّ الحقّ مع شاعر البذاءة مظفّر النّوّاب. لم يجد المسكين،وهو الضّليع في ترصيف الشّتائم،شتيمة ترقى إلى مستوى ما عليه ملوك طوائفنا من شنائع فجزم بــ"أنّ الحكّام العرب هم أكبر من أيّ شتيمة".
سلام هو السّلام لحظة اغتيال السّلام على بوّابات زهرة المدائن مدينة السّلام، سلام يرفرف دوما على أفواه البنادق راية خفّاقة ونشيدا أمميّا بحقّ، به تهتف حناجر الأحرار ممّن لا مذهب لهم ولا دين غير دين الحقّ و مذهب الحقيقة. على وقع ترتيل آياته تتناوب المآذن والكنائس والمحاريب في بلد شهداؤه ما ارتحلوا إلاّ وهم يلتحفون برايات السّلام بديلا عن كلّ مشاريع الاستسلام، يضمّدون جرحا بجرح فيكتسب الجرح بهاء كلّما تمطّط به الأمد وطال عليه الزّمان. ليس للبرتقال الحزين في مواسم المآتم اليعروبيّة أن يبقى دوما حزينا. كفى غصن الزّيتون ما نزف من دماء منذ حكاية النّحس الأوّل.كفى الابتسامة ما ألبستها المحن من أحزان منذ كُتب علينا أن نؤرّخ للأحداث ارتباطا بعام التّهجير.آن للجرح أن ينتصب واقفا يعزف أنشودة من أناشيد العرب الباقيّة. يكفي الرّبّ العربيّ ما كابد في وحدته ومحنته دهرا وبعض الدّهر من لجوء في مسارب الخيام.
المقاومة الفلسطينيّة،التي كان قدرها أن تراوغ سيلا من المؤامرات، بعضها حاكتها أياد محلّيّة ممّن هم من بني جلدتنا،وأفلتت من مشاريع إبادة واستئصال بما يشبه المعجزة،الثّورة التي قال عنها الحكيم جورج حبش"إن النّضال ضدّ المشروع الصّهيونيّ قد يستمرّ مائة عام أو أكثر فعلى قصيري النّفس أن يتنحّوا قليلا"،هذه المقاومة حكايتها تماثل حكاية طائر الفينيق الكنعانيّ الفلسطينيّ، يرفض أن يغادر عشّه حين يهاجم اللّصوص والقتلة النّاس ويحرقون المدن والحقول.يفضّل أن يحترق باختياره ويتحوّل في عشّه إلى رماد. ولمّا كان الأعداء يعتقدون أنّه انتهى يفاجئهم وهو ينتفض من تحت الرّماد من جديد. ذلك هو حال الثّورة الفلسطينيّة منذ ثورة البراق (1930) والثورة الفلسطينيّة الكبرى (1936 /1939)،مرورا بملحمة الصّمود في أيلول الأسود (1970 ) شأنها شأن كلّ الحكايات المشوّقة،
إذا كان لا بدّ لها من نهاية فنهايتها لا يمكن إلاّ أن تكون إعلانا عن بداية البداية.
فلسطين، سجلّ حافل بفظيع المآسي وغريب الأعاجيب من المهازل بما يشهد على الحالك من أيّامنا منذ تفتّقت قريحة الحكّام العرب على التّصالح مع تاريخ كُتب عليه أن يؤرّخ لما تواتر من هزائم،
هزائم أصرّ البعض من نبهائنا من باب التّهوين على اعتبارها مجرّد نكسة ناجمة عن غفلة أو استسهال.
فلسطين، فضيحة العرب وعزّهم،عارهم ومجدهم،ذلّهم وفخرهم،المأساة والأسطورة،ليلهم الأليل وقبسهم المضيء. سبيلهم الوحيد إلى معاندة مكر التّاريخ وشطحاته بمكر مضادّ،حارس البوّابات المشرعة لمن هبّ ودبّ من أعراب آياتهم في مواقيت صلواتهم الحمد لمن منّ عليهم بنعيم النّفط ولهيبه وأغراب وجدوا مدنا خالية من حماتها ومحبّيها فأقاموا فيها الآذان باللّيل والنّهار.ضياعها مأساة توارثها جيل عن جيل فبات الحلم بالعودة إليها بريقا في ظلمات الأنظمة العربيّة اسما والعبريّة قولا وفعلا.
دراما العصر وإلياذته، مظلمة التّاريخ الحديث ولكنّها –أيضا وأيضا- أكبر وأنبل ملحمة أسطوريّة أصرّ أبطالها على أن يناشدوا المستحيل لا الممكن على حدّ تعبير رشيق لحكيم الثّورة جورج حبش.
لم يجمع حكّام إماراتنا- فرادى وجماعات- من المحيط إلى الخليج منذ انتصبوا على رقابنا كالقدر المحتوم إجماعهم على تشرّب الهزيمة بكثير من التّلذذ وتبريرها والتّباهي بتحويلها إلى واقع لم يخجلوا من التّغنّي به على أنّه سلام، وكابر البعض منهم فعدّه سلام الشّجعان. الخيانة التي هجّنها غسّان كنفاني منذ ما يزيد عن نصف قرن وماثل بينها وبين الميتة الحقيرة وتوجّس البعض من إمكانية تحوّلها يوما ما إلى وجهة نظر باتت بفضل الإلهام الذي كان عادلا في تهاطله على قادتنا - أمراء ورؤساء وملوكا وسلاطين- ، باتت عقيدة تُطبخ بشكل رسميّ في مؤسّسات دولنا الرّسميّة. الجامعة العربيّة- البيت العربيّ اسما والواجهة الصهيونيّة لطبخ المجازر قولا وفعلا- مرّت بالسّرعة القياسيّة من زخرف التّنديد ببلاغة هجينة ما أزعجت يوما ذبابة إلى بوّابة عبور لتدبيج مبرّرات المساواة بين المتوسّدين الجمر المتّكئين على الجراح والوافدين من الأساطير القديمة، الجلاّد والضّحيّة، المستوطن واللاّجئ، المغتصب والمقاوم،مهمّتها إن كان لها مهمّة هي "مراقبة الوضع عن كثب" .
من غرائب التّاريخ العربيّ الذي يعجّ بالمهازل أنّ الأوهام التي روّجتها الأنظمة طيلة عقود باتت رغم فداحتها أملا يُطلب ولا يُدرك. التّسابق والتّباري في الحجّ إلى زريبة التّطبيع بات إنجازا يتباهى به حكّام راكموا كلّ موجبات الفشل. مسكينة الخيانة افتكّ منها الحاكم العربيّ ريادة الخسّة والنّذالة فصارت بحاجة إلى كثير من المذاكرة والمثابرة لتسترجع موقع الزّعامة. في اللّحظات التي يكون فيها الحياد مسخا وأكثر الأكاذيب المجنّحة وقاحة وقلّة حياء يوغل أمراء ممالكنا في تنظيم رحلات الحجّ إلى البيت الأبيض، بيت الطّاعة يستفتونه سبل ترويض شعوبهم وأشكال قبر كلّ ما بقي من أحلامهم .
"إنجازات" الحكّام العرب تسفيه عمليّ بالحجّة والبرهان لِما اعتقد فرويد أنّه قاعدة، انتصار غريزة حبّ البقاء والتّشبّث بالحياة على غريزة الموت والاستكانة للفناء.مسكين فرويد كان عليه أن يتفطّن إلى أنّ مشايخ العربان شكّلوا دوما استثناء يخرق أيّة قاعدة مهما كان بناؤها سليما. يمكن الجزم بأنّ السّادات وهو يبرم صلحا منفردا (1979) مع عدوّ ما كان يوما منفردا لم يكن يعتقد للحظة - حتّى من باب الافتراض- أنّ أخلافه من المطبّعين سيكونون أكثر منه رحمة بمجاميع العمّ سام. شعار "لا صلح / لا اعتراف / لا تفاوض" الذي كان عنوانا لمرحلة حوّلوه إلى أبشع أضحوكة واستبدِل بشعار محيّن وأكثر راهنيّة": لا صلح لا اعتراف لا تفاوض" نعم. ولكنّ العدوّ هذه المرّة المقاومة والشّعوب وليس الكيان الصّهيونيّ وحلفاءه.
شعب فلسطين شعب الجبّارين من حصن إرادته الحصين في برقيّة مواساة عاجلة إلى إخوانه من العرب العاربة يعلن في بيان حروفه عرائس تتراقص بين موجات القصف، بيان ليس بحاجة إلى ترقيم: نحن هنا،في قلعتنا المحرّرة بالظّفر والنّاب، بدم غزير ودمع ضنين، بكلّ خير نحن وسنظلّ،مطمئنّون جدا على أحوالنا منشغلون فقط بأحوالكم. قلوبنا معكم في سجونكم وتهفو إليكم في معتقلاتكم ومقابر أحلامكم. انتظرونا بضع ساعة فقط لنتدبّر لكم بعض ما يلزمكم من المدد.
ساعة يعبس الفدائيّ يبزغ الفجر قبل الأوان،يبتسم الأفق في الحين، تطلع الشّمس تغازل الكون وتتعشّقه فتبتسم شقوق الأرض.تفتح ذراعيها ليصبح الجرح جسر عبور. تعود الحكاية لتتشكّل كما كانت في أصلها الأوّل. يتوظّأ الرّبّ والرّسل والأنبياء بما انهمر من شلاّل دماء الشّهداء.جميعا يرتّلون في اجتماعهم الدّوريّ غير المرقّم: نحن العدّ،نحن السّند، نحن المدد. فلا تنتظروا مِن أيّ خائن معونة أو مددا. فيروز في النّاحية الأخرى تشدو بيانها قرآنا عربيّا مبينا: سلام سلام على بلد السّلام.
ويأبى الحلم إلاّ أن يمتطي صهوة الحلم ويبحر في أبعد مدى: يوم تتحرّر فلسطين عروس المدائن (إن لم يكن اليوم فغدا)،يوم تزّف عرس الأعراس إلى عشّاقها من المتيّمين بها لحظة يزول الحدّ بين الجدّ واللّعب في أكبر ساحة من ميادين التّحرير ويتحرّر البرتقال الحزين من حنين قاهر يلاحقه ويسكنه منذ مأساة التّهجير، لن يكون الفلسطينيّون في حاجة إلى أدنى مجهود لاستحضار تضاريس المدن، رائحة الأزقّة ومنعرجاتها، ملامح الشّهداء، تاريخ الوقائع،أشجان الجسور،أحزان الأرامل واليتامى.فهذه ماثلة في الذّاكرة ككلّ رغبة مكبوتة لا تخبو إلاّ لتعود أكثر نظارة،منقوشة في الوجدان،ولكنّهم سيحتاجون أطنانا من المجلّدات لإحصاء قوافل الخونة من بني جلدتهم من العرب العاربة ممّن رقصوا طربا على جثث شهدائهم.
أين تقع غزّة الفلسطينيّة؟؟ دوما في القلب. فالفلسطينيّ لا يملك إلاّ ما يدفعه إلى الرّحيل ومع ذلك- وربّما لذلك- ليس له أن يختار، اختياره الوحيد أن يبقى شماتة في غزاته(وما أكثرهم). وما مساحتها؟؟ بحجم أوسع من كلّ الأحلام وأرحب. وما حدودها؟؟ حدودها إن وُجدت فلا حدّ لها. ممتدّة من الماء الى الماء، من دم الشّهيد إلى ابتسامة الوليد.أبعد ما يكون عن كلّ خائن خؤون. شوكة في حلق كلّ خائن، أنشودة في فم كلّ ثائر.قرآن الشّهيد وهو يؤبّن الشّهيد ويسجّل عليه جملة من الوصايا منها أنّه أوصاه بالمستحيل ليذكّره بأنّه من شعب يعانق الموت،يأبى أن يموت فيتسلّل من دهاليز الموت لكي لا يموت. تغريدة العصافير وهي أسرابا إلى أعشاشها تعود، كلّما ضاق بها المكان اتّسع لها الأفق فاستعذبت رحلة التّحليق.
هل اكتشفتم أين ترفرف أجمل راية للسّلام؟؟ حيث يكون الموت هو الحقيقة الوحيدة الباقية وتكون الحياة - إذا نجحت في الإفلات من مخالب الموت- محظ صدفة،السّلام حيث الشّهيد هو أوّل وآخر من نجا.
هل أبصرتم دما يطلب ثأرا ويستزيد؟؟ وربّا يقسم أن لا ملجأ لمحو عار العرب غير أسوار المقاومة؟؟.
إلى أيّة فصيلة ينتمي الحكّام العرب؟؟ أمّا الرّبّ فقد امتعظ ممّا خلق وظلّ يتساءل من أيّة طينة عجنهم وسوّاهم .وأمّا علماء الأنساب فبعد الاستعانة ببياطرة جزموا بأنّ الأمر يتعلّق بظاهرة غريبة تستعصي على التّصنيف ونصحوا بضرورة سوقهم إلى أقذر مستنقع للحيوانات المنقرضة.
ما المطلوب من إخشيد الجامعة العربيّة؟؟ لا شيء. نناشدهم فقط إعلان الجامعة وكالة استخبارات أجنبيّة،ممارسة حقّهم في تنكيس الأعلام وإقامة الحداد - لطما وندبا ونحيبا- حزنا على دخول التّطبيع غرفة الموت السّريريّ، ملازمة الصّمت وإلزام المقاومة بحمايتهم من كلّ غضب شعبيّ محتمل.
ما المهمّة التي أوكلها محمود عبّاس لنفسه ؟؟ أن يسبّح بحمد أحفاد العمّ سام وأبناء عمومتهم من عرب آخر زمان،أن يعبس في وجوه بني جلدته.أن يثبّت حقّه في الاستفراد بالحديث باسم الفلسطينيّين. رحم الله محمود درويش" يدعو لأندلس إن حوصرت حلب".
كانت فلسطين. وستظلّ فلسطين باقية بقاء الزّعتر والزّيتون، ثائرا لا يفنى وثورة لا تموت. كلّما عزفت المقاومة نشيدها الرّسميّ صار الاسم أحلى وأبهى.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي