|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
نهاد ابو غوش
2023 / 10 / 1
نهاد أبو غوش
إلى متى تستمر الجامعات الفلسطينية في تخريج آلاف الطلبة سنويا دون التدقيق في ارتباط تخصصاتهم ومهاراتهم التي اكتسبوها بحاجات سوق العمل؟ وما علاقة البرامج والتخصصات التي تعتمدها جامعاتنا بحاجات مجتمعنا الرازح تحت الاحتلال، وهو أحوج إلى ما يعزز صموده وبقاءه واجتراح نمط التنمية الملائم لمجتمع يناضل للخلاص من الاحتلال ؟ ولِمَ التنافس بين الجامعات الفلسطينية في اعتماد عشرات البرامج الأكاديمية الجديدة بما فيها برامج الدراسات العليا؟ وما مصير التعليم المهني والتقني الذي انعقدت من أجله عشرات المؤتمرات والورش المتخصصة ورصدت من أجله موازنات وبرامج دعم سخية؟ وما صدقية ومصير الشكاوى السنوية التي تطلقها النقابات المهنية كلما ظهرت نتائج امتحانات الثانوية العامة من اتجاه الطلاب لاختيار تخصصات تكلف أهاليهم مبالغ طائلة وتقودهم لاحقا إلى طوابير البطالة؟
هذه الأسئلة وغيرها كثير كانت محل نقاش معمق ومتخصص، ومدعوم بالأرقام والإحصائيات وشهادات ذوي الخبرة، وبمشاركة عشرات الأكاديميين والخبراء من مختلف الجامعات ومراكز الدراسات. حمل المؤتمر اسم "مخرجات التعليم الجامعي بين فرص العمل المتاحة وطوابير البطالة المتلاحقة"، وانعقد بمبادرة من مركز الدراسات والتطبيقات التربوية (كير). وعلى الرغم من أهمية المؤتمر وموضوعاته، فقد غاب الجانب الرسمي تماما وكأنه غير معني أبدا بهذه الموضوعات، أو كأن الورشة مخصصة لمناقشة واقع التعليم في بوركينا فاسو أو أذربيجان. وكذلك كان الحضور الرسمي للجامعات والهيئة الوطنية للاعتماد والجودة ضعيفا، بينما كان حضور الأكاديميين الأفراد وممثلي النقابات المهنية مميزا.
في سنوات الخمسينات والستينات، وجد الفلسطينيون في التعليم سلاحا قويا يعوّضون فيه جزئيا ما فقدوه خلال النكبة التي دمرت مجتمعهم وكينونتهم الوطنية وعصفت بمصيرهم الجمعي والفردي، وتزامن ذلك مع انفتاح أسواق عمل واعدة في دول الخليج وعدد من الدول العربية المستقلة حديثا بحكم اكتشاف الثروة النفطية وحاجة الدول الناشئة لكوادر متعلمة في الميادين كافة. لكن دول الخليج ومن بينها السعودية، اتجهت منذ السبعينات والثمانينات إلى توطين الوظائف العامة والخاصة، وتنمية كوادرها المحلية لشغلها، كما أن قوانين السوق فرضت نفسها على فرص العمل المتاحة، فبات الفلسطيني يجابه منافسة حادة من قبل جنسيات عربية أخرى، ثم من العمالة الأسيوية، وفي السنوات الأخيرة ومع الثورة العلمية التكنولوجية اشتدت المنافسة حتى مع منافسين من أوروبا وأميركا والعلم المتقدم.
استوعبت مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية عشرات الآلاف من المتعلمين، لكنها سرعان ما وصلت إلى درجة الإشباع، بل صار المسؤولون يشكون من العبء الكبير الذي تمثله فاتورة الرواتب على الموازنة. واتخذت قرارات عدة بوقف التعيينات أو الحد منها (لم تطبق بالطبع). ولكن، ما زال حلم الوظيفة العمومية المريحة يداعب خيالات الطلبة وذويهم، ومن المؤكد أن هذا التوجّه يحد من خيارات المجازفة والمغامرة لدى الشباب، ويقلّص قدرة المجتمع عموما على الابتكار وإيجاد مجالات جديدة لتوليد الدخل والقيمة المضافة.
على الرغم مما سبق، بقيت آليات التعليم وبرامجه على حالها، فالجامعات تنامت وتكاثرت لتزيد عن عشرين جامعة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، خلافا للكليات الجامعية والكليات المتوسطة. بل أخذت بعض الجامعات تفتتح فروعا لها في غير محافظاتها الأصلية. وباتت التخصصات الجامعية ميدانا للتنافس التجاري، وافتتحت بعض الجامعات مسارات للقبول الموازي لنفس البرامج التعليمية لمن معدلاتهم في الثانوية العامة أدنى من الشروط المعلنة، ولكن بتكاليف مالية مضاعفة، علما أن تكلفة التعليم الجامعي في بلادنا مرتفعة جدا قياسا بدول نامية مثل سوريا، وغنية مثل ألمانيا.
كلفة التعليم الجامعي الباهظة تؤدي إلى حرمان فئات واسعة من أبناء الفقراء ومحدودي الدخل من فرصة التعليم وإبقائه حكرا على الطلبة القادرين على دفع كلفته المالية، وليس متاحا للقادرين أكاديميا. إزاء هذه المعادلة المجحفة لا تبدي السلطة ووزاراتها أي اهتمام أو محاولة لإنصاف الفقراء، وما دامت كلفة التعليم هي في الواقع أعلى بكثير مما يدفعه الطالب من رسوم، نستنتج أن الحكومة تساهم في دفع أكلاف تعليم الطلبة الأغنياء.
كثيرا ما يلجأ أهالي الطلبة الفقراء ومحدودي الدخل إلى الاستدانة وتكبيل أنفسهم بالقروض وفوائدها، أو بيع قطعة أرض، إن وجدت، ورثوها عن الآباء والأجداد لتغطية تكاليف تعليم الأبناء والبنات، يحرمون أنفسهم من أشياء كثيرة لتوفير تكاليف التعليم، مع أن الثمار الحقيقية للتعليم يجنيها أصحاب العمل والحكومة ودوائرها إلى حد ما، فكيف إذا كانت نتيجة هذه العملية المرهقة انضمام الخريج إلى طوابير البطالة؟ إنها كارثة شخصية ومعضلة وطنية من دون أدنى شك.
لعبت عوامل ثقافية واجتماعية دورا كبير في تفضيل خيارات ومهن محددة للطلبة مثل الطب والهندسة والمحاماة، وهي في الواقع أكثر المهن عرضة لارتفاع نسب البطالة (كل الإحصائيات تؤكد أن بطالة الخريجين أعلى من بطالة غيرهم)، وثمة عوامل نفسية تجعل الخريج الجامعي يأنف من قبول وظائف يراها أدنى من غيرها في السلم الاجتماعي ومتطلبات الوجاهة والتفاخر. وما يزيد الطين بلة أن أنظمة السلطة وقوانينها تكرس الاتجاه للتعليم النظري المجرد بصرف النظر عن الحاجة إليه، خذوا مثال قانون الخدمة المدنية وشروط الترقية في الوظيفة العامة، فقد يبقى الموظف غير الحاصل على شهادة جامعية في موقعه طيلة حياته، لكنه يصبح مؤهلا للترقية حال حصوله على شهادة البكالورويس ولا يهم إن كانت الشهادة في الزراعة أو الشريعة أو الخدمة الاجتماعية، وما إذا كانت تتواءم مع وظيفته. الجامعات هي الأخرى تكرس النتيجة عينها من خلال تشجيع عمليات التجسير، وكأن برامج التعليم المهني والتقني ليست سوى خطوة للحصول على الشهادة العزيزة أي "الكرتونة".
نحتاج إلى ثورة حقيقية في التعليم وارتباطاته بحاجاتنا وظروفنا وحياتنا، ولدينا عشرات الدراسات حول ذلك، لكنها ما زالت حبيسة الأدراج ورفوف المكتبات.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |