|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
الطايع الهراغي
2023 / 9 / 12
"من لا يعرف التّاريخ محكوم عليه بتكراره"
(كارل ماركس)
" أتونس عندي في هواك تولّع ** وأنت منى نفسي عليك تقطّع
نسيت بك الدّنيا وعيشي وراحتي** أريد لك الحسنى وخصمك يمنع"
(الطاهر الحدّاد)
"إنّك تخاطبني في حلّ الجامعة،وهي ليست ملكا من أملاكي لي حقّ التّصرّف فيه،بل هي حقّ للعملة مشاع،ولي صوت لا أرفعه ضدّ الجامعة ما حييت.".
(محمد علي الحامّي)
01/ هاجــس الاستقلاليّــة
اتّحاد الشّغل مستقلّ أو لا يكون. ذلك هو منطوق تاريخ الحركة النّقابيّة في مسيرتها الطّويلة، بنجاحاتها وخاصة بانكساراتها وخيباتها.وذلك هو حكم التّاريخ كما اختزلته الذّاكرة النّقابيّة وتمثّلته .
الاستقلاليّة رهان الرّهانات. لم تكن يوما منجزا، ولكنّها كانت دوما حلما وهدفا.
تاريخ الفعل النّقابيّ في تونس تاريخ مطبوع بتواتر الأزمات وحدّتها، أزمات لازمته منذ التّجربة الجنينيّة الأولى (1924)، محورها أقرب إلى اللاّزمة: اتّحاد مستقلّ ؟؟ أم اتّحاد تابع، متذيّل مدجّن؟؟. واليوم بعد قرابة القرن على تأسيس أوّل نقابة مستقلّة "جامعة عموم العملة التّونسيّة" يظل عنوان المرحلة أيضا وأيضا: معركة الاستقلاليّة. الباقي -على أهمّيّته- يظلّ تفاصيل وجزئيّات.
إرث الحركة النّقابيّة وإرث اتّحاد الشغل [الذي ظلّ لأسباب ما ولجملة من العوامل ضلعها الأساسيّ]- شأنه شأن كلّ إرث- يُقرأ في حركيّته لا في سكونه وثباته، بتمثّل سيرورته لا باستعراضه. كلّ قراءة، مهما تشدّدت في موضوعيّتها، ومهما سعت إلى الاقتراب أكثر ما يمكن إلى صرامة المنحى المعرفيّ الأكاديميّ، تبقى موقفا وموقعا، وتفقد جدواها إن لم تكن مشدودة إلى خيط ناظم،إلى غاية.
اعتماد التّحقيب الزّمنيّ مثلا في فهم مفاصل التّاريخ النّقابيّ تتهدّده إمكانيّة الإبحار في التّفاصيل المشدودة إلى اللّحظة والضّياع في تشعّباتها ما لم تكن القراءة محكومة بهدف ومقادة بمنهجيّة.
كلّ تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة منذ انبعاثها مطلع العشرينات،مرورا بجملة الأزمات التي عاشتها أو فُرِضت عليها،وانتهاء بما يعتمل اليوم في السّاحة النّقابيّة بعد زلزال 25 جويلية، يمكن - في قراءة ما- ردّه دون الخوف من المجازفة إلى عنوان جامع: رحلة البحث عن الاستقلاليّة المفقودة. كانت بالنّسبة للرّوّاد في بدايات تشكّل البذرة النّقابيّة حلما ورهانا وغدت لدى الأخلاف تاريخا وإرثا.
الاستقلاليّة في وجودها محنة وفي ضمورها محنة المحن. فلمّا تكون واقعا معاشا يسكن النّقابيّون هاجس انفراط عقدها، وعندما تُجهَض، تُغيَّب أو تغيب يكتوون بعذابات استردادها.
02/الانبعاث والتّأسيس /الدّلالات
التّجربة الأولى،حجر الزّاوية في نحت خصوصيّات(ميزات) الحركة النّقابيّة التّونسيّة تعود إلى تلك المغامرة التي لم تدم غير بضعة أشهر ومع ذلك كانت كافيّة لتعبيد الطّريق ووضع أسس رحلة الفعل النّقابيّ المستقلّ في"إيّـالة" لم تعرف الفعل السّياسيّ والنّقابيّ إلاّ كوافد مع انتصاب الاستعمار.تجربة وجب التّأكيد على أنّها لم تأخذ حظّها من الدّراسة والبحث والإلمام والتّمثّل مقارنة بتجربة فرحات حشّاد رغم الجهود التي بذلها أحد أقطابها ومؤرّخها الطّاهر الحدّاد في كتاب كان وسيظلّ المصدر الأساسيّ والأوّل للتّعريف بالحركة والتّأريخ لها وتتّبع ملابساتها، تعرّجاتها، مخاضها، أهدافها، الصّعوبات التي جابهتها والمخاطر التي حفّت بها.كتاب "العمّال التّونسيّون وظهور الحركة النّقابيّة"، الذي أراده صاحبه تكريما لمحمّد علي واستخلاصا لجملة من الدّلالات من تجربة محدودة في الزّمن ممتدّة في التّاريخ، يكشف وعيا حادّا بأهمّيّة التّأريخ للذّاكرة وصونها . علمان بارزان: محمد علي الحامّي والطّاهر الحدّاد. الأوّل قال عنه الحدّاد(لقد جاءنا لأوّل مرّة بأفكار لا تتّسع لها البلاد التّونسيّة)فجعل من هذه الأفكار رهانا،وكان لها الشّهيد والشّاهد.والثاني قال عنه الأديب المصريّ طه حسين "لقد سبق هذا الفتى زمّنه بقرنين" واعتبره أحمد الدّرعي، رفيق دربه ونصيره في محنته ضدّ إكليروس الزّيتونة"أقوى شخصيّة أنتجتها البلاد التّونسيّة بعد الحرب العالميّة الأولى وأكبر ضحيّة فقدتها البلاد منذ أجيال".إلى الأوّل يعود فضل التّأسيس وإلى الثّاني يعود فضل التّأريخ.
"جامعة عموم العملة التّونسيّة"(1924)تجربة تحالفت عليها كلّ القوى الرّجعيّة (الباي/ المقيم العامّ ممثّل السّلط الاستعماريّة / القوى المحافظة والأحزاب الإصلاحيّة) لوأدها في المهد وفي زمن قياسيّ. ومع ذلك فقد أرست طريق الخلاص: تجربة البحث عن أفق. الجامعة، الاسم ذاته يرشح بالدّلالات. تقابة تونسيّة لحما ودما. في ذهن الرّوّاد الاستقلاليّة رديف التّونسة بما هي انسلاخ عن ومن النّقابات الفرنسيّة - الـس ج ت أساسا- وتنظّم العمّال التّونسيّين في تنظيم نقابيّ تونسيّ يعلي العمل ويرّد له الاعتبار ويعلن دخول العمّال التّونسيّين حلبة الصّراع بالتّنظم المستقلّ على غرار ما هو معمول به في سائر الأمم كما شدّد على ذلك "النّقيب" في مجادلته للبوليس الفرنسيّ.
ما دوّنه الحدّاد في ما هو أقرب إلى اليوميّات يبيّن حجم الصّعوبات التي عاشها المؤسّسون في الاقتناع والإقناع بوجاهة القطع مع النّقابات الفرنسيّة.فالجامعة كم عرّفها الحدّاد لم تكن فكرة خامرت البعض"ولم تكن نتيجة جلسة أو جلستين أو يوم أو يومين بل هي نتيجة الحوارات الدّائمة بين الأعضاء المؤسّسين في اجتماعاتهم المتوالية".ومعروف موقف مختار العيّاري(وكذلك أحمد بن ميلاد)الذي كان يجاهر برفضه فكرة الانسلاخ ويردّد (إنّ انفصالكم عن الاتّحادية يحرمكم من إعانة25 مليون من العمّال.".
هويّة المؤسّسين للجامعة إجابة ماقبليّة عن معنى وجوهر الاستقلاليّة.
ليست الاستقلاليّة رفضا ولا هي عداء للانتماء السّياسيّ والحزبيّ .بكفي فقط الاطّلاع على انتماءات المؤسّسين. فمعلوم الانتماء الشّيوعيّ لمختار العيّاري ومحمد قدّور وبشير الجودي ومحمد الخياري ومعلوم أيضا الانتماء الدّستوريّ لمحمد الغنوشي وبشير الفالح وأحمد الدّرعي ومحمد الخياري. الاستقلاليّة تعني مراعاة خصوصيّة المنظّمات النقابيّة وعدم تحويلها إلى واجهات حزبيّة والدفاع عن مصالح المنظورين ضدّ تعسّف واستغلال الدّولة والأعراف.
"وما الماضي إلاّ درس للمستقبل" ( الطّاهر الحدّاد).
تجربة الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل (1946) ليست إلاّ إحياء واستعادة لحلم محمد علي ورفاقه،بالتّأكيد في ظرفية مغايرة تماما. لقد أدرك حشّاد أنّ المطلوب هو الفعل في العوامل التي أجهضت تجربة التّأسيس الأولى: كيفية التّعامل مع الباي/ المرونة في التّعاطي مع الأحزاب السّياسيّة خاصّة تلك التي عجّلت بوأد تجربة محمد علي/ استمالة الأسر التّقليديّة المحافظة في شخص الفاضل بن عاشور الذي تولى رئاسة الاتّحاد.لم يكن استشهاد حشّاد إلاّ ضريبة تشبّثه باستقلاليّة القرار النّقابيّ الذي تُرجِم في الرّبط بين المسائل الاجتماعيّة المطلبيّة والمسألة الوطنيّة وحقّ الاتّحاد في التّفاوض والتّعامل مع الأطراف السّياسيّة في المسائل السّياسيّة بكلّ ندّيّة مع ضبط مسافة التّباعد والتّقارب.
03/ تواتــر الأزمــات
تتالي الأزمات وتوالدها، تلك هي العلامة المميّزة لتاريخ الاتّحاد بعد 1956 في ما عُرِف بمرحلة بناء الدّولة الوطنيّة. فبورقيبة المهووس بالزّعامة الفرديّة كان همّه دمج الحزب بالدّولة بالمجتمع في ما أعلاه إلى مستوى الجهاد الأكبر الذي يقتضي تدجين المنظّمات الوطنيّة(القوميّة وقتها) وإلحاقها بالحزب الدّولة. في هذا الإطار تتنزّل شطحات مسلسل عزل وتنصيب الأمناء العامّين(أحمد بن صالح/ أحمد التّليلي/ الحبيب عاشور فتجربة الاتّحاد التّونسيّ للشّغل.. ) وفي ذات الإطار تتنزّل أزمتا 1978 و1985.
فيفري 1978 بعد مجزرة الخميس الأسود ( 26جانفي 1978) بورقيبة في مؤتمر صوريّ ينصّب قيادة بديلة برئاسة التّيجاني عبيد. فماذا كانت النتيجة؟؟ قيادة رسميّة هي لسان حال الحاكم معترف بها من الحزب والدّولة،مهجّنة محلّيّا وإقليميّا وعالميّا في ما عُرف في الأوساط النّقابيّة والسّياسيّة باسم نقابة التّيجاني عبيد. وقيادة شرعيّة تقبع في السّجن تحوز على تعاطف أوسع الأوساط في الدّاخل والخارج.لم يجد الحاكم من حلّ غير التّواصل معها لإيجاد مخرج لأزمة لم تفلح القيادة المنصّبة إلاّ في مزيد تأزيمها. فكان مؤتمر قفصة الاستثنائيّ (أفريل 1981). معركة الاستقلاليّة في المؤتمر تجسّمت في الموقف من حرمان الحبيب عاشور من التّرشّح في ما سُمّي برفع الاستثناء الذي يعني تمكين عاشور من استرداد حقوقه المدنيّة والنّقابيّة. بقطع النظر عن المواقف والقراءات المتباينة فإنّ ما تمّ تثبيته في اللّوائح من إلزام للقيادة المنتخبة باتّخاذ كلّ التّدابير لحل معضلة خلافية وتقييد ذلك بحيّز زمنيّ مضبوط يُعدّ انتصارا لنزعة الاستقلاليّة. وهو ما تمّ في المجلس الوطني الذي التأم في تاريخه المحدّد من المؤتمر.
أزمة 1985 تكاد تكون نسخة من أزمة 1978 مع اختلاف في الإخراج. حلّ الأزمة حكمه أمران:
العامل الأوّل انقلاب 07 نوفمبر1987 وحاجة السّلطة الجديدة إلى تطبيع الوضع عموما والوضع النّقابيّ خصوصا بالتّعامل مع القيادات الشّرعيّة بحكم تمثيليّتها مقابل انعدام أيّ تمثيلية وأيّ إشعاع لمجاميع الشّرفاء والاتّحاد الوطنيّ، كلاهما صنيعة الحاكم. والعامل الثّاني صمود الهياكل الوسطى والدّنيا غير المعترف بها من الحاكم مقابل غياب كلّيّ للهياكل المنصّبة المسنودة من الدّولة والحزب. وقد لعب المطرودون دورا رياديّا في التّصدّي لكلّ المؤامرات وإفشالها حتّى تلك التي تعلّقت بإمكانيّة النّظر في وضعيّاتهم المهنيّة.يكفي فقط إحصاء التّجمّعات الاحتجاجيّة والفعاليّات النّقابيّة التي نظّموها وأثّثوها لتبيّن ذلك.
04/ إعصار ما بعد 2011
على خلاف ما كان منتظرا من الثّورة التّونسيّة فقد كان رحيل بن علي نقمة على الفعاليّات التي انخرطت في المسار الثّوريّ ونعمة على الحكّام الجدد.منظومة حكم متعطّشة للاستفراد مستكلبة على حكم تراه حاكميّة رديفا للغنم والاستئثار، يستوي في ذلك حكومات التّرويكات المتناسلة وعهد قيس سعيّد سليل منظومة ما قبل زلزال 25جويلية، استبدال طاقم بطاقم وتعبيرة سياسيّة يمينيّة بجنيسها.
اتّحاد الشّغل في سرديّة النّهضة وشركائها في الحكم منظّمة عميلة رجعيّة واجهة من واجهات البونابارت بورقيبة والعسكريّ بن علي، استئصالها مهمّة للإنجاز و محاولات تطهيرها كشف عنه تحرّش ميليشيات النّهضة المسمّاة زيفا "روابط حماية الثّورة" ،المثال النّموذجيّ هو الاعتداء على المقرّ المركزيّ للاتحاد في ذكرى اغتيال زعيمه فرحات حشّاد.
في سرديّة قيس سعيّد ومجاميع المبايعة الاتّحاد" اتّحاد الخراب"، وجوده يتنافى مع تصوّر الحاكم الجديد للتّعامل مع المنظّمات والأحزاب.
مرّة أخرى تعود معركة الاستقلاليّة إلى الواجهة بأكثر ضراوة في تمظهرات الجديد فيها والغريب الخلط المتعمّد من طوابير المساندة النّقديّة بين الصّراع والتّباين والاختلاف مع قيادات المنظّمة والارتماء في أحضان المنقذ الأعلى.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |