عزاء البو هدلة

نعمت شريف
2023 / 8 / 8

-قصة حقيقية من زمن الارهاب-
بقلم: نعمت شريف
كانت عائلة البو هدلة عريقة تضرب بجذورها في اعماق التاريخ، معروفة بشهامتها وكرمها ونخوتها في الشدائد. في غضون جيلين فقط بلغ عدد رجالها ما يربو على الخمسين، وبجيلهم الثالث يتضاعف عددهم. كان لجدهم الاكبر اخوة واولاد عمومة توزعوا على قرى المنطقة، وكان له خمسة اولاد ومن ذريتهم اصبح العدد يتضاعف مع كل جيل. كان كلامه يسري على الجميع، وله من المال والبنين من السطوة واللين ما يجعله مؤهلا لمركز قيادي في المنطقة عن طيب خاطر الجميع، فهو لا يرد محتاجا ولا دخيلا، فهو شيخ لمكانته ولم يكن قط راغبا في الالقاب والمبدران، بسيط في ملبسه، بسيط في داره، وبسيط في تعامله مع الاخرين. وكان يروي انه في خمسينات القرن الماضي، حدث شجار في القرية، تطورت الى مواجهة بالسلاح الناري، واطلق احدهم عدة عيارات وقتل اثنين من الطرف المقابل، ولم يكن بد بعد ذلك ان يهجر القرية الى غير رجعة، ولكنه اثره كان واضحا حيث خط نقطة البداية في تاريخ القرية في تلك الحادثة الدموية. حدثت شجارات واحداث قتل بعد ذلك ولكنها لم ترق الى ان تصبح معلما تاريخيا للقرية. كان معظم اهل القرية اناس طيبون يكدون من اجل لقمة العيش ومزارعون ماهرون، ومعظمهم متحابون ومتعاونون فيما بينهم. ولذلك كان وفاة الشاب جمال وهو اب لطفلين صدمة للقرية وهب الجميع لدعم العائلة والقيام بواجب العزاء.
كان الفقيد شابا في منتصف الثلاثينات، وسيما بهي الطلعة لاتفارق البسمة شفتيه، ذا شعر اشقر وعينين زرقاويين توحيان بنسبه الآري، على خلاف العرب الذين يتميزون بسواد الشعر والعينين. فهو شبكي تعلم ان يكون فخورا دون ان يحمله ذلك على العنصرية، وكما علمته ثقافة العائلة، كان مقداما طيب القلب، يجير من يطلب النجدة، ولا يرد سائلا، وكان له اصدقاء ومعارف كثيرة لا تحصى. كان بسيطا في مهنته، سائقا يعمل لساعات طويلة فله زوجة وطفلان ينتظرونه للعشاء كل يوم الا ما ندرعندما يتطلب العمل ذلك. كان في عز الشباب عندما وافته المنية في حادث اصطدام مؤلم، قبيل الغروب وهو في طريق عودته كالعادة ليشارك عائلته العشاء، وإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل عنده بأجل مسمى. كانت وفاته صدمة كبيرة للجميع وانتشر الخبر كالنار في الهشيم، وهرع اهل القرية من صغير وكبير لتقديم الدعم والمساعدة، فمن باك، ومن حزين، ومن آخرين تظهر على وجوهم اثار الصدمة في تلك الامسية من ايلول 2013.
كانت ليلة صعبة للجميع وهم يقومون بمراسيم الدفن، وفي اليوم الثاني بدؤوا بمراسيم العزاء وجاء المعزون كالسيل الجارف من كل حدب وصوب من القرى المجاورة وحتى بعضهم من محافظات اخرى لعلاقاته الطيبة مع كل من التقى به او تعامل معه في حاجة ما. كان لوجهاء القرية وعائلة البو هدلة حضور دائم في مجلس العزاء. كان كريم كبيرهم طويل القامة في اواخر الستينات من عمره ومعروفا لدى الجميع بصلابته واستقامة طبعه وقد ظهر عليه علائم الحزن الشديد. كان يفتقد جمال عمه كثيرا ويفكر في ما جرى في الحادث اللعين وكيف اختطفت يد المنية ابن عمه وعضده الايمن، حتى اصبح اولاده يراقبونه عن كثب لقلقهم المتزايد عليه من ان يحدث له مكروه لا قدر الله. كان احد اولاده مختار القرية، وكان يراقب والده وكلما دمعت عيناه، يقدم له منديلا لمسحها، وقدحا من الماء ليقطع عليه سلسلة افكاره الحزينة. وكان يرافقه بين فترة واخرى للسلام على المعزين في الخيمتين الاخريين. كان كريم دائم الحضور في المجلس، ويقابله في الجانب الاخر من الخيمة بدران العلي، وهو صديق طفولته وكبيرعائلة اخرى في القرية، وكانا يتجاذبان اطراف الحديث هنا وهناك ويستقبلان الضيوف وكأنهما اخوين من عائلة الفقيد.
لا يزال يتذكر اسمه الكامل صالح هلال العبدو عندما كان في بلده اليمن، ولكن لم يناده به احد منذ سنوات، وكل ما يسمع هو عبدو. لقد بلغ الثامنة والعشرين، لم يتزوج وليس له اطفال، وبعد اكثر من ثلاث سنوات من تركه اليمن بلغ الياس به مبلغا عظيما. كانت حياته مليئة بالجرائم من قتل ونهب واغتصاب، ولم يشعر قط بالسعادة ولا حتى بالارتياح سواءا عندما كان في بلده او بعد التحاقه بصفوف التنظيم الاجرامي. كان كل ما يسمعه من مسؤوليه ان يفعل كذا او يستعد لغزوة. فكر اكثر من مرة كيف يمكنه ان يتخلص من الورطة التي وقع فيها، ولكنه لم يستقر على حل، فاما ان يقتله رفاقه اذا حاول الهرب، او انه سينتحر! ولكن الشيخ كان دائما يردد له ولاخرين مثله ان الله يغفر للشهداء ذنوبهم ويدخلهم الجنة وللشهيد ان يلتقي باثنين وسبعين من اقربائه ومحبيه، وسيكون له اثنتين وسبعين حورية. كان تفكيره قد اصبح ضبابيا، لايستطيع ان يقرر لنفسه ماذا يريد؟ وكان ان حدث احد اصدقائه المقربين عن معاناته، ولم يخطر له ان الواجب كما يقول المسؤول يحتم عليهم ان ينقلوا احاديثهم الى مسؤوليهم، وكانوا يقولون لهم انه من صالحهم وصالح الجميع ان تكون تقاريرهم الداخلية فورية ليستطيع المسؤول تفادي الامر قبل ان يستفحل. وهذا ما فعله صديق عبدو وفي اليوم الثاني، جاءه الشيخ الكبير يدعو له بالخير والشهادة ويقترح اذا كان في نية عبدو ان يصبح استشهاديا فامامهم عمليات مهمة، وسيجازيهم الله خير الجزاء، ويستقبله الرسول الكريم بحفاوة بالغة، وقال له مودعا سأعود اليك عندما تكتمل التحضيرات للعملية التي ستقوم بها انشاء الله.
لم ينم عبدو ليلته، وفي اليوم الثاني وكان القلق واضحا على محياه، فذهب الى مسؤوله المباشر وقص له ما قاله الشيخ، فهنأه قائلا "ابشر بالجنة ياعبدو، فانت اهل له، ولقد احسن الشيخ الاختيار". استغرب عبدو من الموقف، وآلمه بعض الشئ، لانه لايزال له عين في الدنيا، وكل ما يريد هو ان يتخلص من وضعه الحالي ويتوب الى الله توبة نصوحا، وهنأه آخرون. ماذا يفعل! قال له مسؤوله المباشر، "اطلب يا عبدو من الدنيا ما تريد وانشاءالله سننفذه لك كيفما تريد." فقال عبدو، ارغب ان اكلم والدتي، فانا قلق عليها كثيرا. فأجابه، يا عبدو سأطلب ذلك من الشيخ، ليتصل بك مدير البدالة، وسيكون معك. واما نصيحتي ان تقول لوالدتك ما يفرحها فهي لا زالت من اهل الدنيا وستلتقي بها في الجنة. وفي هذه اللحظة بدأ عبدو يفكر في ان الجميع يتكلمون عن دخوله الجنة وكانه تحصيل حاصل، ولا بد انهم يثقون بالشيخ، وان ايمانهم بلقاء الرسول لا يتزعزع، ما باله هو لايزال يساوره الشك احيانا فيما يقومون به من سلب وقتل واغتصاب لا يتلاءم مع انسانية الانسان، وفي اعتقاده ان الاسلام دين سمح وانساني، ولماذا العنف يسيطر على قلوب الجميع! كان عبدو غائبا عما يدور حوله حتى بادره صديقه بقوله "توكل على الله، لا تقلق يا صديقي، ستتكلم مع الوالدة غدا انشاءالله وسيهدأ بالك، هيا بنا لنذهب لتناول العشاء."
كان صديقه يرافقه حتى ساعة متأخرة من الليل ولم يتركه لوحده في دوامة التفكير، وكان يعرف ان عبدو سيرحل عنه الى الابد، وانه كان لابد لعبدو ان يكلم والدته حتى يكون مهيئا للعملية. وفي اليوم الثاني وبعد تناول الغداء، كان صديقه قد دس له في غدائه حبة صغيرة، ولم تمض الا فترة وجيزة حتى جاءه مدير البداله ليرافقه الى غرفة المكالمة وكان فريق العملية ينتظرون في غرفة ثانية. وفجأة بدأ عبدو يشعر بالارتياح، ويبتسم للأخرين، كان الجميع يعرفون سبب ابتسامته الا عبدو نفسه وكان يظن انه سعيد لانه سيكلم والدته. واثناء مكالمته، كان يطمئن والدته بانه سيلتقي بها قريبا. كان قد اختلط الامر على عبدو بان "لقاء الجنة" سيحدث في هذه الدنيا. كان تفكيره ضبابيا، يبتسم للجميع، ومن ثم استودع والدته، وأغلق التلفون، وهم بالخروج، ولكن استوقفه مديرالبدالة وهدأه ليرافقه الى حيث ينتظره الفريق. ودعه الاخرون، وكان يبتسم من غير وعي ويقول لا تقلقوا سالتقي بكم جميعا هذه الليلة. تم اعداده وتلبيسه الحزام وتلقينه ما سيقول للحراس عندما يقترب من الهدف، وقال له مرافقاه، ياعبدو، لا تشك قط في اننا سنتركك وحيدا، كن واثقا وعندما تتعرف على الهدف، تضغط على الزر، وتنتهي مهمتك وستستقبلك حواري الجنة، وسوف لا تجوع ولا تعطش بعدها ابدا، انت عزيز على قلوبنا، لا تنسانا في الدعاء لنا.
كان عبدو لايزال غارقا في الحديث مع امه، فتارة كان يفكر كم هي سعيدة بسماعها صوته كما هو سعيد بسماع صوتها، وتارة يفكر كم هو تقصيره في حقها، فالجنة تحت اقدام الامهات وبعد سنوات الانقطاع، ربما لم تكن راضية عنه وسوف لا يدخل الجنة او على الاقل سوف لن ترغب في اللقاء به. وهكذا كانت الافكار تتزاحم في ذهنه وهكذا يعيد الكرة ويلتقط فكرة اخرى، ولم يشعر قط بتوقف السيارة ولا تغييرها الاتجاهات عدة مرات. قال عبدو للسائق لا يمكن ان تكون فترة طويلة، كيف وصلنا بهذه السرعة؟ فرد عليه السائق، نعم، نحن خلف التل وقد حان الوقت لان ترتدي معطفك المبارك وتتلثم باليشماغ حتى لا يعرفك احد وتدعي انك حزين على المرحوم، ولا تخف فالملائكة معك وهم يعرفونك جيدا، تعال وتوكل على الله. تذكر انك صديق للمرحوم وترغب في تقديم التعازي لذويه حتى تصل الى رئيسهم ومن معه، واذا لم يكن موجودا فأقصد اكبر تجمع لهم قبل ان يكتشفوك ويتفرقوا، فكلهم شبك وشيعة رافضة كفرة. اذهب وتوكل على الله فالرسول ينتظرك للعشاء. وحوريات الجنة تتراقصن فرحا لمقدمك. ونحن سنراقبك هنا حتى النهاية، فانت المجاهد البطل. ابتسم عبدو قائلا، الى اللقاء في جنة الفردوس، فاجابا بصوت واحد، الى اللقاء يا بطل.
وعلى مسافة من التلة الاثرية، كانت هناك ثلاثة خيام واسعة لاستقبال المعزين، وكان ذلك اليوم الثالث والاخير من مراسيم العزاء وكانت الساعة تقترب من السادسة مساءا وكان اغلب الضيوف يغادرون وبعضهم يهرعون الى دورهم او الى جامع القرية لاداء الصلاة وكان الشباب يهرعون للف خيمتين واعادتهما الى مكانهما، وسينتظرون للثالث للفها ليلا حيث كان هناك لا يزال عدد من الضيوف يتجاذبون اطراف الحديث. كان الامام قد غادر المكان برفقة ابنه لاداء الصلاة، وكانت الخيمة الاخيرة لازالت قائمة وتعج بالمعزين عندما لاحظ وسيم ان شخصا قادم من خارج القرية وهو يتقدم بخطى حثيثة وكأنه يطلب شيئا، وما ان اقترب حتى اشر لابن عمه الشاب احمد ان يستفسر من القادم من هو وماذا يريد؟ فتقدم له احمد قائلا حياك الله، ماذا تريد؟ فرد عليه عبدو دون ان يرفع رأسه وبصوت ملؤه الغصة والحزن، كان المرحوم صديقا عزيزا عليّ، جئت لاقدم التعازي الى ذويه وهذا اقل ما علىّ اداؤه. رحمه الله، اين الجماعة، فأشر له احمد الى الخيمة الاخيرة التى لازالت قائمة فتوجه عبدو الى الخيمة. كان وسيم الى يمينه عندما رأى ان احمد قد سمح له بالدخول من دون سابق معرفة به. ترك الخيمة واسرع خطاه للحاق به، ولكن عبدو دخل الخيمة ونظر حواليه ليرى من هو كبير القوم، فتقدم نحو كريم وفي الوقت الذي قدم كريم يده ليصافحه، حرك هو الاخر يده، لا للمصافحة، ولكنه ليضغط على زر التفجير، فكانت الواقعة.
وفي الصباح اعلنت الادارة الحكومية الحداد لثلاثة ايام على ضحايا تفجير عزاء البو هدلة، حيث وصل عدد الضحايا الى 93 شهيدا وجريحا.، وهكذا بدأ التاريخ من جديد، معلما يسمون اطفالهم ويؤرخون للقرية به، ولادة في الزمن الردئ.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي