من أجل منْ ؟ قصة قصيرة

نوال السعداوي
2023 / 7 / 16

-------------------

دق جرس التليفون بجوار رأسى حاداً صارخاً، ملحاً، فتقلبت في فراشى أبعد رأسى عنه.. أهرب منه ،، ولكنه ظل يهدر في سكون الليل ، يمزق من حولى ستائر النوم المخدرةاللذيذة.. يلاحقني كلما هربت منه.. وامتدت يدى بلا إرادة، ورفعت السماعة إلى أذنى ، وقلت وأنا أتثاءب :
- ألو ..
وجاءتني حشرجة خشنة ، تبينت فيها صوت رجل يقول:
- الدكتورة موجودة.
- أيوه.
- أرجوك اسعفيني ... أنا مريض .
- أين تسكن ؟
- شارع الجيزة رقم كذا..
- حاضر، سآتي إليك حالا.
قلت الجملة الأخيرة بلا تفكير، وخلعت ملابس النوم، وارتديت ملابس الخروج وأخذت حقيبتى المعدة، وخرجت الى الشارع.. وركبت سيارتي الصغيرة واتجهت الى الجيزة.. وكنا في فبراير والجو فارس البرد، والليل شديد الظلمة بلا قمر، ولا أكاد أرى طريقى إلا من خلال أنوار المصابيح المتناثرة ، بعضها منير ، ومعظمها مطفأ لا أدرى لم..
وضغطت بقدمى لأطلق العنان للسيارة ، فانطلقت بي كالطائرة ، ووجدتني بعد دقائق قليلة فى شارع الجيزة. ووقفت في عرض الشارع لاهثة ، ووضعت يدى على قلبى فى أسى ..
آه .. لقد نسيت رقم بيت المريض.. وأخذت أستجمع ذاكرتي ، وأركزها في الكلمات التى سمعتها من المريض ، لكي أذكر الرقم الذي قاله لي دون جدوى .. كأنما أصبح عقلى مادة صلبة من الحجر ، لا تعى شيئاً..
وسرت بالعربة يائسة تائهة.. أتخيل الرجل المريض ، وهو ينتظرني بين لحظة وأخرى ، وأنا لا أجيء، ويظن أننى تلقيت استغاثته ثم استسلمت للنوم، ولا يعلم ربما أمر من أمام بيته دون أن أعلم..
وفجأة من بين يأسى وحزنى ، لمحت نورا خافتاً في إحدى النوافذ فخفق قلبي من الفرح والأمل ، وقلت لنفسى: هو!.. المريض ينتظرني .. من غيره يستطيع أن يسهر إلى هذا الوقت من الليل ؟.
ونظرت إلى ساعتى كانت الثالثة صباحا ، فانطلقت بعربتي تجاه النور، وأوقفتها أمام البيت ، وصعدت السلم ، ووضعت يدى على الجرس. وقبل أن أضغط على الجرس أحسست بهاتف من أعماقى يقول لى ، وماذا لو لم يكن بيت المريض ؟.. وخفت من المغامرة، وهممت بأن أعود أدراجي . لكني تذكرت صوت المريض الضعيف الخائر، وتخيلته جالسا ينتظرنی، فاندفعت إلى الجرس وضغطت عليه بكل قوتى.. وسمعت صوت أقدام تقترب من الباب، ورأيت " الشراعة " تُفتح ، ويطل منها رأس إمرأة مشعت.. ونظرت إلىَ المرأة في دهشة كبيرة ، فقلت لها على الفور " متأسفة.. هل يسكن هنا المريض الذى"..
وقاطعتنى المرأة فى صوت حاد مستنكر " مريض ؟! " ، ورمقتنى بنظرةارتياب بالغة ، فاعتذرت لها بسرعة ، وهرولت إلى السلم أجرى، وقدأحسست أنها ستجرى خلفى وتمسكنى من ملابسي
وركبت عربتي ، وعدت إلى شارع الهرم أسير على مهل وفي قلبي ثقل كبير.. ووصلت البيت.. ووضعت مفتاح الشقة في الباب ودخلت، فإذا بي أرى زوجى واقفاً فى الصالة . ولما رآني أقبل علىَ وسألني قائلاً :" أين كنت، لقد استيقظت بالصدفة فلم أجدك .. أين كنت ؟ ".
وحكيت له القصة من بدايتها، منذ سمعت المحادثة التليفونية ، حتى ضغطت على جرس البيت المجهول، ولاحظت أن أنفاسه تعلو وتهبط ، ورأيته ينظر إلىَ فى دهشة وفزع وسألني :
- ومنْ الذي فتح الباب ؟ رجل أم امرأة ؟.
ونظرت إليه في أسى وقلت :
- لم يكن هو بيت المريض.
لكنه لم يأبه لكلامي ، وعاد سؤاله قائلا:
- رجل أم امرأة ؟ .
قلت وأنا شاردة :
- امرأة .
فهدأت ملامح وجهه ، وعاد ليواصل النوم ، في راحة بال واطمئنان.
وجلست فى الصالة أفكر.. أشياء كثيرة ترتطم برأسي وتسبب لي ألما.. ولم أدر إلا ونور الصباح ، يملأ المكان وأنا أجلس ، وقد غلبنى نوم يشبه اليقظة .
وانقضت على تلك الليلة أيام كثيرة ، خلت أنني نسيتها.. حتى كان يوم كنت أجلس في عيادتي ، وقال لى التمورجي ، أن رجلاً يريد مقابلتي.. ودخل الرجل، ورأيته ينظر إلىَ متفحصا ثم قال :
- حضرتك الدكتورة سعاد .
- أيوه.
فمصمص شفتيه وقلبهما ، وسكت قليلا ثم قال :
- حضراتكم عاملين دكاترة .
ودهشت لهذا الهجوم المفاجئ وقلت في فزع.
- ماذا تقول ؟ .
فقال في ثورة :
- أنا كنت على وشك الموت، ولا دكتور واحد رضى يسمعني، وفضلت للصبح لغاية ما جاني دكتور.. لكن بعد ايه .. حتى أنتِ يادكتورة ، قلت لي أنكِ جاية وكذبت علىَ .
وترددت قليلا في أن أحكى له القصة ن، ثم رويت له ما حدث. لكنه لم يصدقني ، وخرج وهو يقول:
- طبعا ، كل الدكاترة بيقولوا كده.
وجلست ، وضعت رأسي على كفى، وفي قلبي ألم يعتصره بلا رحمة أو شفقة.. وقلت لنفسى فى أسى ، ما من أحد عرف الحقيقة. لقد ارتابت المرأة التي فتحت لي الباب في أمرى.. وارتاب زوجي في الشخص الذي كان بالبيت المجهول، وارتاب المريض فى أنى خرجت لأسعفه.. وأنا ؟! وأنا أعلم أنني فعلت ذلك ، بكل وعى وكامل ارادتي.. ولكن ما الفائدة وما من أحد غيرى يعلم ؟ .
وأحسست بدموع ساخنة تسيل على وجهي.. ولم أدر ما سببها.. هل كنت أبكى من أجل الناس ؟ أم كنت أبكي من أجل نفسى ؟!.
-----------------------------------------------------
من المجموعة القصصية : " حنان قليل " 1958
--------------------------------------------------------

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي