|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
محمد احمد الغريب عبدربه
2023 / 6 / 10
الشاعر المصري والبوهيمي "اشرف يوسف" صاحب الدواوين النثرية الاكثر شهرة في البعثرة والمجاز التفكيكي الشعري، والبحث عن الذوات المختلفة المشتتة تغنمت دواوينه بالصخب الذاتي والاعتراف الوجوداني، كما يوصفه الناقد العراقي خضير ميري بأنه ملك الاحتيال علي المسميات ويتميز بالاقتصاد الشعري وان النثري لديه أكثر شاعرية عندما يقترب من التفاصيل وينافس النثري السردي وتخريب الحواس، وشحذ المخيلة وحلب الاستعارات البلاغية وعمل حسية لغوية خاصة لها أكثر من واقعيتها المقيتة التي تعرض الشعري الي الانقراض.. هذه التوصيفات التي يذكرخضير لا تتوقف عن الفهم التفكيكي لدواوين الشاعر اشرف يوسف.
في قصيدته الاولي المعنونة "تلغراف" مناجاة وجودية للبحث عن الذات الحائرة والمسائلة الذاتية للوصول إلي قبلة يفهم فيها إلي مدي وصل به الترحال ويقول " هكذا يتحلل سجنك الأبدي إلي معني يربطني بك، في طرقات الحواري والأزقة"، هذا الديوان المكون من 14 قصيدة تحت عنوان "حصيلتي اليوم... قبلة"، والصادر عن دار شرقيات في عام 2007، ويحاول المقال الاقتراب من مجاورة نقدية وبحث ذاتي علي استحياء في عوالم الديوان وقصائده والاستبصار الشعري قليلاً.
يبدأ المدعو "أحمد نمش"، البحث عن اصدقاء جدد بعد أن اخذ عهداً علي نفسه بمقاطعة اصدقاءه القدامي، يجلس السيد نمش علي مقهي يشتهر باسم قهوة البيضة في الضواحي الشرقية لشارع القصر العيني بوسط المدينة، يجلس وحيداً بلا صديق فسعيه نحو الاصدقاء كان اعلانا منه دون تنفيذ حتي الآن، يرتشف عدة اكواب من القهوة السادة التي تدعو القهوة الاسكتو موضعة امامه في ترابيزة شديدة البياض مثل ألوان حوائط القهوة العتيقة، يرمق السيد "نمش" الجالسون علي المقهي والمارة، ويرتدي ملابس غير منظمة، يبحث بكل تحدي عن أصدقاءه الجدد ليحكي لهم عن قصصه التي يغزلها خياله كل يوم عن تفاصيل مثيرة بالنسبة له، فقد اطلق عليه البعض أنه ديستوفيسكي القصر العيني، نمش يبحث عن ذاته في كل لحظة، يسرد قصصه اليومية بلغة حكي ذاتية وشاعرية، كأنه كتب أحدي قصائد ديوان أشرف يوسف، او أحدي دواوينه النثرية.
في قصيدته المعنونة " كينونة"، يهدم "أشرف"، بشكل دائم سلطة الإشياء وسلطة الوجود، وقبل كل ذلك، يهدم سلطته الشخصية لذا صيرورة البحث والتأمل لا تتوقف كأننا لدينا فيلسوفاً يتأمل مواقفه الفلسفية والفكرية بجرة قلم شاعرية، وينتقل الشاعر الي تفكيك سلطة الانثي، بخطابات خيالية شاعرية وموجهاً إلي خطاب الكتاب، فكأن اللقاء الحميمي مع المحبوبة هو لقاء لحوار الثقافات وهنا يتجلي الرمز الكلي أمام تفاصيل الايروتيك.
خضير ميري الكاتب الفلسفي العراقي والادبي المشعوذ يجلس في احدي مستشفياته النفسية كعادته هذا المكير وفي أحدي محاولاته للهروب من الواقع ومن محاسبة الجميع له يتنكر في زي رجل أمن ويجلس في حديقة مستشفي ابن راشد العراقية بسبب معاناته للأرق الشديد، يقرأ مقاله الذي كتبه عن التو عن اشرف يوسف ويقول " يا له من رائع لا احد يفهم تفكيكاته المستمرة، فأشرف في ديوانه يستعير مفعول صوري وانساني أكبر مستعيرا لغة المزامير ومستبدلا القول المقدس المعروف (في البدء كانت الكلمة )الي مسماه المقول الخاص(في البدء كانت القبلة).وبذلك يتمم الانزياح دورته حين يصبح المعني اعادة لخلق الدلالة وليس استبطاناً لها قد تفتح لنا الأدوات اللفظية للمرآة اللاكانية آفاقا أخري في استنطاق هذه النصوص علي ضوء العقد أو التراكيب النفسية التي تنطق بنفسها من خلال الشاعر(الأم والأب والابن المركب منهما). وفي غفلة للناقد تضع قوات الامن يديه علي كتفه حتي أنه لم يستطع اكمال اقواله النقدية الفلسفية حول ديوان اشرف ، ويتعرض خضير للاعتقال ويقوم بتمثيل دور المجنون لفترة استمرت ثلاث سنوات في مديرية الأمن العامة قبل أن يتم نقله إلى مستشفى المجانين في (الشماعية) الذي هرب منه في فوضى عام 1991 التي أعقبت حرب الكويت. يا لها من قصية حياة ناقد وفيلسوف مثيرة جدا تشبه خيالات الشاعر.
يجلس علي مقهي البيضة رجل يقرأ كتاب الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا " في علم الكتابة"، الذي صدر في عام 1967، ويناقش فيه الكاتب كُتاب مثل كلود ليفي ستروس، وفرديناند دو سوسور، وجان جاك روسو، وإيتين بونوت دي كوندياك، ولويس هجيلمسليف، ومارتن هايدغر، وإدموند هوسرل، ورومان ياكوبسون، وغوتفريد لايبنتس، وأندريه لوري-غورهان، وويليام واربورتون. يُعتبر الكتاب نصًا تأسيسيًا لفلسفة التفكيك النقدية. كاتب المقال اسهب قليلا في الكتاب الذي اهتم بهم دريدا، محمد الغريب كاتب يحب الفلسفة والجماليات ويعمل فرد امنا متميزاً بشهادة بعض الاقران في العمل، وذلك في فندق جراند بيرامدز بجوار مطعم وكباريه صهللة في شارع الهرم ناحية المريوطية، يشتهر عنه أن البعض يقول انه كتاباته بنيوية او ما بعد بنيوية ولكن اغلبها مدعية لا فائدة منها حال كتاب ما بعد الحداثة في اي مكان في العالم، في الليل يقرأ قصائد اشرف يوسف ويندهش من قدرته التفكيكية في ديوان المقال "حصيلتي اليوم قبلة"، وأنه ينافس جاك دريدا في كتابه "في علم الكتابة".
السيد نمش هذا البهلوان، رائد تفكيك علاقاته النسائية فكان من ثوار التحرير وناقماً علي آبانا الذي حكم ورفض توزيع الثروة علي المهمشين والغلابة، يجلس الآن ويعلن ثورته ضد الجميع من أجل هذه الانثي التي تدعي مني، أو كما يطلق البعض عليها محبوبته الجديدة، يحاور نمش شاعرنا اشرف يوسف ويقول له " أفتح دفتي أحدي الكتب لديك وأحلم خلالها بلقاءك الحميمي القادم، اعطي لها جائزة المراة الإيروتيكية، قف قليلاً عن تفكيك خطابات السلطة المجتمعية ضد محبوبتك المنتظرة والتي يشاع عنها أنها ثائرة، او اعطي لنفسك مهلة عن الوقت واقفل دائرتك الضاخبة".
يرفض اشرف يوسف الصور البلاغية والنواحي الشاعرية البيانية، ويتجه الي نواحي اسلوبية ما بعد بنيوية، في تشريح انطولوجي غرائبي لموضوعات ديوانه، كأنه الكلام مسموع وليس مكتوب، كأن الامر تلاقي للأذن وليس لقراءة الأعين، أصوات الديوان حية مليئة بالحيوية والتفاعل الشاعري والحسي مع القارئ، في كتابه يطرح دريدا فكرته عن اعتبار الكتابة مجود نوع مشتق من الحديث المنطوق عبر التراث الفلسفي الغربي كله، وبالتالي اعتبار الكتابة مجرد إسقاط للحضور الكامل للحديث المنطوق.
في قصيدته صانعة الأكفان يقول أياديهِم مجتمعةٌ/جَرَّت الجدرانَ الوقحةَ بجانبِ بعضِها/ورسمتْ بلداً يكلِّمُ الموتَ داخلَ سفينةِ نوح/موتٌ، يا موتُ!!/اصعدْ لنا معَ الهواءِ, ينفتح اشرف علي الثورة بحماسية شديدة، ويلاحظ الروح اليسارية الهائلة في كتاباته والانتصار لقيم الحق والعدالة والانثي وضدية الافكار السلطوية، ويستخدم طرق تفكيكية جديدة في شحذ همم القارئ في الانتصار للمعني والجميل في الحياة، فكتاباته هي اشراقات صوفية ونورانية، وتأتي باقية قصائد الديوان في مناحي ثورية تفكيكية ذاتية، ورغم بعض العبوس او النواحي العدمية التي قد تتسم بها التفكيكية او الرؤية او القراءة الاولي لكتابات اشرف بأنها ذاتية حزينة الآ أنها في جوهرها شاعرية انفتاحية متفائلة تحمس للحياة، وكان يجلس اشرف يوسف مع محمد الغريب كاتب المقال: يقول له انا منفتح علي الحياة سأسعي غدا في البحث عن محبوبة جديدة مثل صديقنا الجميل احمد نمش واحتسي النبيذ بين احضانها رغم اني فحل شعري ولدي ذاتية وحضور في الكتابة لا أري مثله... الشاعر دائما يحتفي بنفسه كما هي كتابته تحتفي بنفسها....
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |