دفاعا عن استقلاليّة المنظّمات

الطايع الهراغي
2023 / 3 / 21

كتب الصّاحب بن عبّاد إلى قاضي مدينة "قـم":"أيّها القاضي بـ"قـم"قد عزلناك فقم".فكان القاضي يقول، إذا سئل عن سبب عزله،:"أنا معزول السّجع من غير جرم ولا سبب".
ابن عبّاد هذا ملقّب بالوزير العالم،من كبار علماء وأدباء الشّيعة الإماميّة الإثني عشريّة. قيل عنه أنّه كان"من نوادر الدّهر فضلا وتدبيرا وعلما وجودة رأي".
من عجيب ما هو موكول لتاريخنا أن يسجّله من غرائب الأخبار في عجائب مصر من الأمصار،نوادر وأعاجيب من حكايات هذا الزّمان، تستعصي على العدّ وتربك صرامة مناهج المؤرّخين، أنّ ثورة 14 جانفي في انفلاتة من دبر التّاريخ أطاحت بأحد أكثر الرّؤساء العرب استبدادا وبدت واعدة في القطع مع فترة بائسة من ماض أشدّ بؤسا، ولكنّها على خلاف ما كانت تبشّر به وجدت نفسها في دائرة مغلقة أتقن إغلاقها سياسيّون مهذارين هواة ، لم يستفيقوا بعدُ من صدمة كونهم حكّاما.

01/ هاجس اليتم التّاريخيّ
عقدة الامتلاء بالحرمان عندما تتمكّن من صاحبها وتسكنه قد تتحوّل من مركّب نقص وإحساس بالدّون إلى مركّب استعلاء متوهَّم .
جلّ مكوّنات المنظومة التي أفرزتها اعتمالات ما بعد 14جانفي تعيش كابوس اغتراب سياسيّ وتاريخيّ ملفت، مردّه الارتعاب من واقع اليتم التّاريخيّ الذي تحوّل إلى عقدة مركّبة ومربكة عشّشت في أذهان حكّامنا واستبطنوها بحكم تغيّبهم عن الأحداث التي عايشوها رغما عنهم، ومن موقع المتفرّج وليس حتّى المتابع،ولم يعيشوها وباختيار منهم، إذ لم تكن في مدار اهتماماتهم.وبحكم استحالة استحضارهم لتاريخ كانوا عليه عالة وحٌكم عليهم أن يعيشوه الآن كنقمة. سيتمثّل لهم دوما في قالب لعنة وسوط عذاب. كابوس يقتحم عليهم مضاجعهم بدون استئذان، كحبل المشنقة المتدلّي في غرفة المحكوم بالإعدام، يذكّره باستمرار بموعد تنفيذ الحكم كما تذكّر الثّورة الحكّام بساعة القصاص والانتقام.
ماذا ستكون النّتيجة؟ التّعامل الثّأريّ الانتقاميّ مع إرث تونس وكيفيّة تشكّله في أكثر من مرحلة وفي كم محطّة، بتقليم ما لا يوافق هوى الفراعنة الجدد، نظيرَ ما كان يفعل بروكيست بضحاياه(على ذمّة سرديّة الميّثولوجيا اليونانيّة)من مطّ الأجسام أو قطع الأرجل لتتناسب أطوال الأجسام مع حجم السّرير. كذلك يفعل سادة تونس الجدد بتواريخ بلاد لا يشعرون أنّها بلادهم فيمزّقون تاريخها بكثير من السّاديّة.
لا علاج لعقدة الالتياع بالصَّغار والإحساس بالدّون بغير سحل التّاريخ وتنميط المجتمع بقبر مكتسباته وأرثه النّضاليّ طبقا للصّورة الهلاميّة المرسومة في مخيّلة الماسك بالسّلطة.الضّريبة المجتمعيّة لوي عنق التّاريخ وتخيّل تاريخ وهميّ إسقاطيّ.
ليس مستغربا، في ظلّ تدفّق شلاّل الوعي المقلوب على رأسه لمن كاد يصدّق فعلا أنّه بصدد الإتيان بما لم يستطعه الأوائل، أن تنتصب "حوزة علميّة" بعينها سلطانا على الأبدان والأذهان وتستفرد بمصادرة الحقيقة والانتصاب إكليروس إفتاء مؤهّلا أوحد لاستصدار حقّ توزيع صكوك الوطنيّة على من أخلصوا البيعة ودخلوا في دين الموالاة أفواجا ،والبتّ في مطالب الاستغفار والتّوبة – متى ثبت فعلا أنها توبة نصوح- لمن راودته عن نفسها إغواءات الخطاب الرّئاسيّ فأغوته واستهوته.
وليس مستبعدا أن يعمد الحكّام الجدد،وهم يعيدون تلذّذ اكتشاف سحر نظريّة المؤامرة، مدعومين بطوابير التّهليل والتّكبير والحشد الإخشيدي من المفسّرين والأنصار،إلى تحميل الأحزاب والمنظّمات مسؤوليّة الانحباس الحراريّ وتأخّر موعد رمضان إلى موفّى شهر مارس.ولن يكون مفاجئا أن تعمد مؤسسة رسميّة إلى إدانة المعارضة - بما فيها تلك المسكونة بالمساندة قبل النّقد حتّى المحتشم منه - واتّهامها بالتّآمر مع صناديق النّهب الدّوليّة لتغيير التّركيبة الدّيموغرافيّة لتونس منذ مطلع القرن الماضي، وإفشال مساعي إرجاع العلاقات مع سوريا وإشعال فتيل الحرب بين روسيا وأوكرانيا. فعمالتها جوهر ثابت متأصّل، وخيانتها موصوفة كاملة الأركان كما تجزم بذلك شهادة المؤتمن الأوّل على السّيادة الوطنيّة. في تونس المكتويّة بأكثر من جائحة،خطاب رسميّ خشبيّ يكرّر نفسه في مواضيع قلّ أن تكرّر نفسها، تفصله عن تعقيدات الواقع وإكراهات الحكم(وليس التّحكّم)- بما هو فنّ إدارة الشّأن العامّ- مسافة بحجم الفروق التي تفصل عالم الحقيقة عن عالم الخيال،وسياسة مادون مرحلة الهواية،عنوان المرحلة طبقا لما فرّخه ما يحلو لأنصار الرّئيس وسمه بلحظة الوعي،وعي الخامس وا عشرين من جويلية 2021 يختزله شعار:"قولوا نعم حتّى لا يصيب الدّولة هرم". وترجمته العينيّة كما ل تعكسها فلسفة قيس سعيّد في التّسيير والإجراءات والمراسيم والتّعامل مع السّلط (في ذهن الرّئيس وظائف):"أنا الدّولة والدّولة أنا". استتباعاته الطّبيعيّة هو تحويل منظومة الأحزاب وكلّ الأجسام الوسيطة (منظّمات نقابيّة/ منظّمات حقوقيّة /جمعيّات مهنيّة وثقافيّة وبحثيّة/سلط قضائيّة وتشريعيّة...)إلى خادم للسّلطة وليس للمجتمع واستعداء من لازال متنطّعا على بيت الطّاعة.
مطلب السّاعة ومدار الحراك السّياسيّ كما تحتّمه اللّحظة وليس كاختيار، ويفرض نفسه فرضا هو الدّفاع عن حرّيّة التّفكير وحقّ التّعبير خارج معبد سقيفة منظومة الحكم.
عنوانها الجامع: إنقاذ استقلاليّة المنظّمات ورفض تبعيّتها وتدجينها وتحويلها إلى مسخ يحصرها في مربّع المبايعة والولاء بأن تكون واجهة من الواجهات التي تلمّع صورة النّظام القائم وتسهّل تمرير سياساته، فتفقد كلّ المصداقيّة التي اقتلعتها في مسيرة تنطّعها ورحلة بحثها عن ذاتيّتها .
جوهر حرية التّفكير والتّعبير ووجاهته( وراهنيّته أساسا ) بعد تسونامي 25جويلية واستتباعاته أن لا يكون رجع صدى لرغبات الحاكم الأوحد. في لحظة بعينها يصبح التّفكير الحرّ هو قول ما بقضّ مضجع الحاكم ولا ترغب دولته في سماعه وإلجام جنوحه وجنوحها إلى الاستفراد بكلّ السّلط واحتكاركلّ مراكز القرار أملا في إسكات" العوامّ "عن الكلام لتستأثر "الخاصّة" بكلّ الكلام. آية ذلك أنّ السّلطة - أيّة سلطة-(ما يختلف هو الدّيكور والإخراج) تحكمها بالضّرورة غريزة حبّ التّنفّذ والتّمكّن لإدامة تربّعها على العرش.المساهمة في إشباع نهمها تحت أيّ مسمّى هو انحراف بالتّفكير- والسّلوك- من فعل وظيفيّ احتجاجيّ إلى مهنة مهينة، غايتها خلق رأي عام منمّط قطيعيّ، وأقصى اجتهادها تجميل ما يأتيه الحاكم من شنيع الأفعال.

02/بعيدا عـن الهذيـان
الحركة النّقابية عموما،لكي لا تفقد جوهر وجودها وعلّته، والحركة النّقابيّة التّونسيّة تحديدا- بحكم خصوصيّة إرثها وكيفيّة تشكّل تاريخها- هاجسها كان دوما وسيظلّ:
كيف ترسم مسافة الأمان بأن تكون مستقلّة عن جميع الأطراف السّياسيّة وأوّلها الأطراف الحاكمة؟؟ .
تاريخ الحركة النّقابيّة في تونس بتعبيرتها الأساسيّة والمركزيّة، الاتّحاد العامّ التّونسيّ للشّغل يكاد يكون رحلة مغامرة في البحث عن الاستقلاليّة المفقودة.زمن الاستعمار كانت الاستقلاليّة رديف الانسلاخ من وعن النّقابات الفرنسيّة،عنوانها الجامع والدّالّ: تونسة الفعل النّقابيّ.ذلك ما تجسّد في تجربة محمد علي الحامّي زعيم الحركة ورفيق دربه الطاهر الحدّاد مؤرخها وأكثر المتحمّسين إليها "جامعة عموم العملة التّونسيّة" التي لم تعمّر غير بضعة أشهر، ولكنّها كانت كافيّة لا فقط لزرع بذرة العمل والتّنظّم النّقابيّ بل أساسا لإرساء أهمّ خاصّيّة ستطبع الحقل النّقابيّ إلى يومنا هذا: مفهوم الاستقلاليّة. أصبحت المسألة أكثر نضجا في تجربة حشّاد حيث الاستقلاليّة تعني الارتباط بالهمّ الوطنيّ في ما بات يُعرف في الأدبيّات النّقابيّة والسّياسيّة بتلازم البعدين الاجتماعيّ (المطلبيّ ) والوطنيّ (السّياسيّ). الاستقلاليّة هاجس لازم الحركة منذ النّشأة. جزْما لم يكن يوما منجَزا. ولكنّه يقينا- كان دوما هدفا.هذه الاستقلاليّة التي يعود إليها وهجها وتتصدّر واجهة الفعل السّياسيّ كلّما رامت السّلطة المرور من التّطويع النّاعم إلى الاستحواذ المفضوح، نظيرَ ما فعلته الأنظمة السّابقة في أزمتيْ 1978 و1985،وتحاول سلطة الحاكم بأمره جاهدةً أن تعيد إنتاجه اليوم في ظلّ ظروف شديدة الخصوصيّة، ميزتها الكبرى اختلاط الأوراق وضياع بوصلة عديد الأطراف التي تعمد إلى الخلط الملغوم والمقصود بعجرفة وبعنجهيّة بين المنظّمات وقيادات المنظّمات في ما يتماهى مع الهذيان. وبعضها يغالي في المماثلة بين المركزيّة النّقابيّة واتّحاد الشّغل ويختزل التّاريخ النّقابيّ في تمظهر من تمظهراته ويتغافل عمدا عمّا يطبع الحركة النّقابيّة من تموّج باعتماد قراءة تصادرعلى المطلوب أقرب إلى الفتاوى الفقهيّة:اتّحاد الشّغل – وليس قياداته- موال للنّظام،إن لم يكن تعبيرة من تعبيراته،في مطلق الزّمان والملابسات. اتّحاد الشّغل – شأنه شأن أيّ منظّمّة نقابيّة مهنيّة ليس نسيجا متجانسا وهو ما يشرّع الحديث عن اختلاف وتباين وصراع(قد يكون باهتا أحيانا) وبيروقراطيّة.
تجاهرُ البعض من المسكونين باستعجال التّاريخ والاستنجاد بالسّلطة ومناشدتها إجراءَ عمليّة تطهير وقاحة رعناء وعهر سياسيّ وسقوط أخلاقيّ وقلّة حياء، وأكثر منه فظاعة فجّة واستحمارا أرعن وهمجيّة سياسيّة تعمّد تهجين التّحرّكات النّقابيّة والتّشنيع بها وتبرير الإجراءات العقابيّة التي تنتهجها مؤسّستا الرّئاسة والحكومة باسم التّباين مع البيروقراطيّة. إذ التطهير إن وقع يطال المنظمة قبل بيروقراطيتها فعداء السلطة كما تفضحه مختلف التجارب كان دوما للمنظمات قبل ان يكون لقياداتها. يتعلق الأمر بجريمة موصوفة مكتملة الأركان وليس فقط بانحراف(نقابيّ/ سياسيّ)،سفالة سياسيّة وليس مجرّد تقدير، ارتداد وردّة ومبايعة للحاكم وليس فهما معيّنا للدّفاع عن اتّحاد حشّاد كما تزعم جهات بعضها لا يفرّق وبعضها الآخر يتعمّد عدم التّفريق بين الموقف النّقابيّ النّقابيّ بصراعاته وتبايناته وتعدّد مداخله والارتماء في أحضان الحاكم -أيّا كانت هويّة الحاكم-
النّسيج النّقابيّ للحركة النّقابيّة التّونسيّة لم يكن يوما طيلة تاريخها ومنذ انبعاثها وحدة متجانسة. ولم يحكمها أبدا قانون التّماثل مع مكاتبها التّسييريّة إلاّ بقدر نجاح هذه القيادات في أن تكون صوت الحركة مصداقيّة وإخلاصا.لعلّ تجربة جامعة عموم العملة التّونسيّة التي لم تدم غير بضعة أشهر هي المثال الأنصع . في أحلك الفترات كان النّقابيّون وأنصار المنظمة يميّزون بمنهجيّة وبوعي بين جوهر الحركة، طموحها، هويّتها وطبيعة قياداتها المركزيّة.ملحمة 26جانفي 1978 خيضت في خضمّ أشهر العسل بين الحبيب عاشور أمين عامّ الاتّحاد والحزب الحاكم ودولة الحزب الحاكم .عاشور عضو المكتب السّياسيّ واللّجنة المركزيّة وأحد اللاّعبين الأساسيّين في صراع المواقع أحيانا ولعبة الأجنحة أحيانا أخرى في حزب البونابرت بورقيبة يجد نفسه مكرها على قطع حبل الوصل مع حزبه. ينقذه النّزوع الاستقلاليّ الاحتجاجيّ للهياكل الوسطى والدّنيا ويحمله بشكل ما على فكّ الارتباط.
في عشريّة السّحباني ،في ما بات يُعرف بسحبنة الاتحاد، خيضت نضالات،على احتشامها ومحدوديّتها تنهض دليلا على أنّ محاولات التّطويع والتّدجين لم تنجح في جعل الحركة تابعا لمنظومة الحكم.
إبّان الحراك الشّعبيّ الذي هزّ البلاد هزّا أواخر 2010 كانت البيروقراطيّة في واد وجملة من الهياكل التّحتيّة في واد مناقض تماما لما تمنّته قيادة عبد السّلام جراد ولكنّها عجزت عن تكريسه .
الدّفاع عن اتّحاد الشّغل ليس عمليّة مزاجيّة ولا هو موقف عاطفيّ تشدّه اعتبارات ذاتيّة، بقدر ما هو موقف فكريّ وسياسيّ من أهميّة وراهنيّة الدّفاع عن استقلاليّة العمل النّقابيّوالجمعيّاتيّ.
والدّفاع عن المنظّمة – المنظّمات –ليس اصطفافا قطيعيّا وتزكيّة لتقلّبات وأهواء قياداتها.ولا هو خضوع للأكراهات التي تحكمها.
الموقف ممّا يعتمل في السّاحة النّقابيّة التزام واع ومسؤول تؤطّره محاذير يمكن اختزالها في عدم استبدال الاختلافات والتّباينات بالاستنجاد بالسّلطة الحاكمة.
الموقف النّقابيّ السّليم محكوم بضبط مسافة الأمان التي تفصلك عن البيروقراطيّة دون أن تجعل منك خادما للسّلطة وحطبا لها.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي