عهدا لن ننسى/ الذّكرى السّنويّة الثالثة لرحيل منصف اليعقوبي

الطايع الهراغي
2023 / 1 / 16

"وإذا كان النّفوس كبارا** تعبت في مرادها الأجسام".
(أبو الطّيّب المتنبّي)

هذا النّصّ وفاء منّا لمن أبرموا مع أنفسهم عهدا،اعتنقوا مبدأ، آمنوا بفكرة استبدّت بهم فالتحموا بها فلم يعد لهم منها فكاك،قرّروا أن يبلغوا بها المدى أو يفنوا دونها،عقد به ألزموا أنفسهم فباتوا له أسرى إلاّ من تحرّرهم، التصقوا بهمّ جماعيّ فالتزموا به وله باتوا إلفا ،سكنتهم قناعة فلبسوها وأفنوا عمرا في تكريسها والدّفاع عنها وصيانتها .وفي ذلك لم يبتغوا جزاء ولا شكورا. لم يعرضوا نضالهم أصلا تجاريّا في بورصة القيم الموازية. وبذلك فرضوا علينا أضعف الإيمان: أن نكون لهم أوفياء.
الأحد 15جانفي 2023 تكون قد مرّت ثلاث سنوات على رحيل منصف اليعقوبي الكاتب العامّ لنقابة البريديّين لدورات وعضو المكتب التّنفيذي لاتّحاد الشّغل في أكثر من دورة، لم يبرح الأمكنة التي كُتب عليها أن تتوحّد مع الذّاكرة ،ولا امّحى من مخيّلة من عاشروه وشاركوه محطّات ومحنا،هي بالضّرورة أوسمة شرف لمن يعرف للنّضال معاني ودلالات. بياض الورق يا صاحبي شاسع ومخيف،بحجم التّهيّب من الكتابة عمّن إذا قصّرنا في حقّهم فما ظلمناهم وإنّما أنفسنا ظلمنا وقضيّتنا خنّا. الحديث عنكم مسؤوليّة مرعبة وممتعة ووزر مخيف، والذّاكرة تتّقد، تجزم بأنّ الكثيرين كانوا في حياتهم أشباحا وارتضوا لأنفسهم العيش الذليل ويوم رحلوا فكأن ما كانوا، وبعضا ممّن ترجّلوا غابت أجسادهم وما أفلت أفكارهم. وما ثبتت إلاّ وفي نفسها أمر على حدّ قول المتنبّي. غاب الجسد لمّا أخذ منه التّعب كلّ مأخذ واستحال عليه مقاومة المرض.اعتلّ الجسد وما اعتلّت الفكرة، بقيت بقاء المسيرة ناصعة ،وستبقى. فكأنّه لم يغادر سوحنا ومجالسنا لأنّه ظلّ(شأنه شأن كلّ مناضل وكلّ شهيد)ماثلا بيننا بكثافة،هي كثافة الغائب الحاضر، وهل غاب لحظة عن حدث من الأحداث التي داهمت البلاد فأرهقتنا حتّى يجد النّسيان مسربا إلى التّسلّل للذّاكرة؟ يحصل أن لا نبصره في زاوية ما من بوّابات المدينة، ولكنّنا سرعان ما نتخيّل - تخيّلا أقرب إلى القناعة-أنّه سيعترضنا في كم منعطف وكم شارع يؤانسنا في رحلة البحث الدّائب والدّائم عمّا يجب أن يبقى.
لم يختر يوم ميلاده ولا تاريخه (26جانفي1950)،وخاتله الموت ولم يستشره عن أيّ موعد أنسب لرحلة الغيب الأخير (15 جانفي).غريبة هي الصّدفة،ولا تخلو رغم فاجعيّتها من مسحة جمال ودلالات. فجانفي التّونسيّ -لأسباب ما- له طعم خاصّ،ساعة التّشويش الواعي على رادارت سنوات أريد لها أن تكون حزينة كليل أليل ليس له آخر، شهر الغضب السّاطع لا تدري من أيّ فجّ يأتي ليربك حسابات السّادة والأغنياء .فهو في المخيّلة الجماعيّة شهر الجمر والانبعاث بامتياز، وهو في المدوّنة العمّاليّة إحدى بوّابات الذّاكرة النّقابيّة،شهر المواجهة الدّامية (الخميس26 جانفي 1978)،مواجهة أرادها الحاكم وحزب الحاكم أن تكون خميسا أسود للتّرويع والتّأديب والتّرويض،وأرادها النّقابيّون نبشا في ثنايا التّاريخ واستئنافا لرحلة البحث عن استقلاليّة الحركة النّقابيّة بإحياء إرثها والتّصالح معه بفكّ الارتباط بين حزب بورقيبة واتّحاد الرّوّاد: محمد علي الحامّي وفرحات حشّاد.
ما اختار تاريخ الميلاد ولا ساعة الوداع النّهائيّ، ولكنّه كان لدلالتيهما وفيّا، فأبى إلاّ أن يكون نقابيّا بحقّ وفيّا لإحالات الشّهر الذي فيه ولد وفي منتصفه أجبِر على الرّحيل .
رحل حين كان يجب أن بيقى. هكذا حكمت العادة على النّاس أن يقولوا عن أيّ فقيد عزيز تعبيرا منهم عن المكانة التي يحتلها بينهم.وهكذا قال وسيقول عن منصف اليعقوبي أصدقاؤه ومعارفه من النّقابيّين ممّن عاش معهم محنا وخاض معهم نضالات. كان لهم سندا سنوات الجمر المفعمة جمالا لمّا كان النّضال بثمن،فاتورته باهضة والدّفع بالحاضر.صنع معهم أمجادا تشهد بها وعليها ربوع جهته (الكاف المنسيّة)وأبناء قطاعه الذين خاض معهم ملاحم جعلت الشّاعر الطّاهر الهمّامي يتمنّى لو كان بريديّا. في المكتب التّنفيذي لاتّحاد الشغل جعل اليعقوبي من المسؤوليّة عبئا لا شرفا، تكليفا لا تشريفا، تواضعا وليس أبّهة.عنك إذن سنقول: رحلت، فيلكن كأنّك لم ترحل.
وبعدُ، مختلف أنت كأشدّ ما يكون الاختلاف ومنضبط كما يجب أن يكون الانضباط. اختلفت حين يكون الاختلاف ضرورة وحاجة ملحّة، وليس مجرّد رغبة في الخروج عن المألوف، إن لم يكن بإيعاز من جهات تعتاش على تعفين ما تراه تهديدا لخيمتها،وانضبطت لِـما رأيته إرثا مشتركا للجميع،هو لك منعة ولما آمنت به صمّام أمان. قال عنك العبّاسي الأمين العامّ السّابق لاتّحاد الشّغل في أربعينيّتك أنّك كنت الأكثر قسوة على القيادة -وأنت أحد أعضائها- لتكون أكثر استماتة في الدّفاع عمّا قد تتلكّأ ذات القيادة في المضيّ فيه إلى الأقصى. ذلك هو معنى الالتزام،جوهره النّقد الوظيفيّ، تباين البناء لا تباين الهدم.
رحلت بعد صراع مرير مع المرض.أكيد أنّك في لحظات الصّحو الشّاردة،ساعة الهدنة التي تتفضّل بها عليك الآلام كنت تستحضر كلّ الخيبات والنّجاحات. كنت تتبرّم بشبح الموت وتقاوم حدّة الألم لتودّع مشوار الحياة منتصرا لا منكسرا. أعرف أنّ عديد الصّور لازمتك سلاحا كنت تودّ لو أنّك حملته معك أنيسا وذخرا في رحلة الغيب الأخير، حين تكون الذّات في أصدق لحظات صفائها مع نفسها،فليس لها، وهي محمولة على أكفّ الموت، ما منه تخجل ولا مع عليه ومنه تخاف. لعلّها لحظة التّعرّي النّادرة،لحظة تصفيّة الحساب الوحيدة التي لا موجب ولا مجال فيها للتّخفّي.أكيد في لحظات الغيب الأخير، لحظات البوح عندما يكون حساب الذات للذات عسيرا وصادقا لم تمنحك سكرات الموت وقتا كافيا لتذكّر الأسماء،لاستحضار الألقاب وتمعّنها، لم تلهمك قدرة على اعتصار الذاكرة والاستنجاد بها. ولكنّك اقتلعت كلّ الوقت لتجميع الصّور واختزالها وتكثيف الأفعال وتمثّلها.
لم تترك وصيّة. وقد لا تكون الفكرة خامرتك أصلا، ولنقل من باب المواساة أنّك تلافيت ذلك عمدا. وحسنا فعلت.فلم تكن -ككلّ مناضل أصيل - مشغولا بتدبّر مستلزمات رحيل لا تدري متى يداهمك كما داهم الكثيرين بقدر ما كنت منغمسا في شؤون الحياة تاركا شؤون الموت للأحياء الأموات.
جميل يا صاحبي أن ترحل وأنت متأكّد من أنّك لم تكن رقما في معادلة لا تعرف عنها إلاّ ما فُرْض عليك فرضا . وأجمل منه أن تكون على يقين تامّ من أنّك لم تخن قضيّة وما تخلّيت عن مبدإ.
المناضلون كما الشّهداء دمعهم عزيز وشجنهم ضنين وجرحهم عميق ودمهم غزير. منارات تضيء أبواب المدينة وتنير مداخلها لمن لم يُشف من حبّها. هم في غيابهم دائمو الحضور بحيث لا يمكن أن ننساهم حتّى نكون بحاجة إلى أن نبذل أدنى جهد لتذكّرهم واستحضارهم .حضورهم المكثف يريحك -متى أردت ومتى كنت معنيّا- من عناء اعتصار الذاكرة لإدراك ما لا يجب أن يُنسى. قد ننساك -ننساكم- في غمرة طاحونة اليوميّ المعتاد. قد يلهينا عنك وعنكم شان من الشؤون، ولكنّكم تحتلّون دوما من المساحات ما تستأنسه الذاكرة وإليه تحنّ وبه تشحذ ما قد ينهشه الصّدأ ويتآكل.
يحدث في لحظات التّيه والشّكّ أن يعترينا بعض الوجوم. وقد يتهدّدنا شبح المخاوف، تتشعّب علينا الثّنايا، تتشابك المسائل، يكبر الوزر ويتفاقم الحِمل، يجنح بنا الخيال إلى مرابض اليأس، يضغط علينا الوضع المتجهّم.يخذلنا البعض ممّن كنّا على يقين أنّه على الدّرب لن يحيد إلى أن تهاوى كجدار تتالت عليه الصّدوع وسلّم نفسه صاغرا ذلولا إلى كتيبة لوك الأحاجي وتدبيج التّرّهات المعتدية بسفالة على كلّ منطق .في لحظة كومض البرق يستعيد العناد سلطانه فينهرنا. ويمتثل أمامنا شريط من الصّور. تتراقص الذّكريات والأحداث والعربدات المجنونة فيركبنا الخجل من أنفسنا، ومن التّاريخ – سلوتنا بوصفه قاضي كلّ الأّزمنة- نرتعب فتقفز إلى الأذهان صولات وجولات هي في الأيّام العجاف مخاطرة . فلا نملك إلاّ أن ندفع الأمل إلى أقصاه والعناد إلى أفقه الأرحب،أن نلوذ بالحلم -الحارس الأمين من مستنقع الأوهام- به نحتمي. فليس إلاّ أن نحارب شكوكا وهواجس تريد أن تتسلّل من مسارب حفرها قليلو الحياء ممّن باعوا ذممهم لأوّل مشتر وعرضوها بضاعة بخسة في سوق النّخّاسين.
ما ادّعيت بوما يا منصف بطولة -وأنت بها جدير-. وما غلبتك يوما مسؤولية .ألم يهزأ الكثيرون من تواضعك وعابوا عليك ذلك في السّرّ والعلن؟؟ وغالى البعض فرأوا فيه خدشا لهيبة المسؤوليّة.
عهدا يا منصف لن ننساكم . لن نلوّث إرثا هو علينا ديْــن وأمانة. فله علينا فضل أنّه يحمينا إذا تمثلناه أكثر ممّا نحميه ونصونه. لن ننخرط في مدرسة صناعة الأوهام،رسكلتها،تعليبها والتّبجح بتسويقها. أبدا لن نتورّط في مهاترات الباحثين عن تسلّق أيّ سلّم لإشباع ذوات عطشى للارتواء حتّى بسراب تظنّه ماء فتتشبّث بحبال الهواء . سنحفظ الذكرى. لن تثني عزائمنا حالكات الأيّام ولا إرباكات زمن أغبر لبس فيه الهواة والنّكرات جبّة سلاطين الوعظ والتّحذير. لن نرتدّ عن قناعات بدونها نكون جثثا عفنة. لن نشوّه هموما مشتركة ونضالات هي لك ولكم وسام ولنا ديْن وأمانة. فإذا خنّاها فأنفسنا خنّا. لسنا معنيّين بمحاصيل حقول الأوهام، ولسنا على عجل لنستحثّ الفرح. فلم نكن يوما على موعد مع فرح قبل أوانه. عهدا على الدّرب لن نحيد.كما كنتَ وكنتم يجب أن نكون. وسنكون.فليس لنا أن نختار ما بين جنّة ونار. والشّكر كلّ الشّكر لمن لم يتركوا لنا خيارا عليه نساوم . لم يتركوا لنا إلاّ أن سبيلا واحدا أوحد، أن نقاوم. قصفوا الذّاكرة فأملوا عليها أن لا تنسى لكي يظلّ الحقد متحفّزا. فلا نسامح ولا نصالح على ما لا نملك فيه مجالا للتّصالح. حاصروا الذّاكرة فحاصرت حصارها وبإرثها تحصّنت.
كثـرٌ يا صاحبي هم الذين في منعطف ما زاغوا وركبوا موجة التّهليل والتّكبير وعادوا إلى سالفات الأحاجي وعجيب التّخاريف عن المنقذ الهمام من كلّ بهتان، فدلّونا على أنجع السّبل وأقوم المسالك: لا مساومة على إرث نحته روّاد واستأمانونا عليه.فهل من خيار؟؟ أبدا لا خيار.
منصف، رجاء لا تنس الموعد.
أين؟: في ساحة من سوح أرض عطشى للوفاء، ما زال لنا فيها ما نعمل. لنا فيها الوعد والتّذكر وعربدة الطّفولة، لنا فيها طيش الشّباب الجميل يطير بأجنحة حالمة وأغنيات فرح شرود نردّدها ساعة نحتاج حافزا لتأثيث فعاليّة ما تشهد على أنّنا أقسمنا أن لا محيد على ما عليه ذات يوم تواعدنا. لنا فيها رهان كلّما عسُـر صار أحلى وأجمل.
متى؟؟:في لحظة يكون فيها التّحدّي خيارنا الأوحد.
منصف، لكم منّا عهد ألزمنا به أنفسنا وما ألزمَنا به أحد: على ذات الدّرب لن نحيد .لم نستشر كائنا من كان أيّ طريق نسلك.وما سلّمنا أحدا صكّا على بياض.لم ننتظر ترخيصا يحدّد لنا مربّع التّباين ومسافة النّقد، مجالاته وحدّته وآفاقه.تعاملنا دوما بما تقتضيه منّا المسوليّة الأدبيّة والفكريّة في نقد كلّ قيادات الحركة النّقابيّة -في شتّى منعرجاتها- ما بدا لنا زيغا ومروقا عن الثّابت النّقابيّ وانزياحا عن إرث هو ملك جماعيّ، ولم يكن أبدا تركة خاصّة لهذه القيادة أو تلك.آمنّا دوما بأنّ النّقد وظيفيّ أو لا يكون، نقد مسؤول لكي لا يؤول إلى ضرب من التّهجين فينخرط بوعي أو بدونه في سلخ المنظّمة خدمة لأعدائها والتّنظير إلى ضرورة اكتفاء النّقابيّن بالتّحرّك في المربّع الذي تفرضه المنظومات الحاكمة.بوصلتنا في ذلك التّفريق بين المراجعات والتّراجعات والتّمييز بين نقد منتصر لمنظمة عليها مسؤوليّات جسام لن تفلح في تأديتها ما لم تكن مستقلّة في توجّهاتها وآليات صياغة قراراتها ونقد منفلت من عقاله يخدم باسم علويّة حقّ التّعبير وإبداء الرّأي أجندات الحاكم وسياساته وانتظاراته.
منصف اليعقوبي سلامـا/ منصف اليعقوبي وفــاء.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي