|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
نوال السعداوي
2022 / 12 / 15
كرامة قصة قصيرة
--------------------
كان عقلى مشلولاً لا يريد أن يفكر.. بل لا يستطيع أن يفكر حتى لو أراد .. وكانت نفسيتى منهارة مهلهلة ، فتاتها هنا وهناك في ثنايا أعماقي الحالكة ، فلا أهتدى إلى شئ منها .
ولم أكن أحس شيئاً إلا قدمى المنهوكتين ، وهما تنتقلان بلا وعي في خطوات ممزقة ضالة.. وبعد أن همت في طرقات عديدة ، لا أكاد أتبينها وجدتني فجأة أمام بابه .. باب مكتبه. وقرأت اسمه على الرقعة النحاسية الصفراء . فارتجفت وهممت أن أستدير ، وأعود من حيث أتيت، فلم أستطع . وقفت أحملق كالمعتوهة في حروف اسمه:" ضياء الدين توفيق" آه.. إنه اسمه. إنه هو .. إنه مكتبه. . باب مكتبه نفسه الذي شهد خروجنا ودخولنا . أمام هذا الباب فى الظلام، كان يأخذني بين ذراعيه ويقبلني، وتتراءى لى الرقعة النحاسية وعليها اسمه، وكأنها تهتز من فرط السعادة والنشوة، وتراقص حروف اسمه ، وتضئ بنور جميل فأهمس له قائلة: ضياء.. أحبك . خمس سنوات كاملة بأيامها ولياليها أحببته ... وعشت لحظات عمرى معه ، سواء كنا معاً أو فصلت بيننا آلاف الاميال ، حينما كان يسافر، وكثيرا ما كان يسافر في بعثاته الصحفية..
ثم .. آه .. لعلني أنسى .
كان اليوم منذ سنتين.. صباح اليوم الذى كنت أستلقى فيه على فراشي، وأتثاءب، وأستعيد فى سعادة كلماته الرقيقة لى، وأتحسس موضع شفتيه الملتهبتين على وجهى.. وأخذت أقلب صفحات جريدة الصباح في تكاسل لذيذ...
وفجأة خارت قواى.. وتوقف قلبي عن ضرباته.. وأخذت أذناي تصفران صفيراً عالياً جعلنى صماء.. واهتزت الكلمات السوداء المطبوعة أمام عينيَ. لكنني استطعت أن أقرأها مرة ، مرتين ، وثلاثا... وأنا لا أحس بنفسى.. وكأنني في حلم...
وقرأت للمرة العشرين خبر زواجه ، وأنا لا أصدق.. وظننته رجلاً آخر يحمل اسمه.. وجريت الى التليفون، وقالت لى شقيقته في سخرية لا تخلو من مزيج من الشفقة والتشفى:
- أيوه .. ضياء .. إنه فى بيته يا «شوقية».. لقد تزوج. ألم تعرفى ذلك؟ .. وكانت بي بقية حياة، فاستطعت أن أرد عليها قائلة :
- أشكرك .
ولكن.. ما بالي أقف بعد سنتين من البعد عنه ، كالمعتوهة أمام باب مكتبه.. لا أستطيع الدخول.. ولا أستطيع العودة ؟ .. أه... ليت قلبي يتوقف الآن تماما ، فأموت وأقع جثة هامدة هنا ، حتى يتعثر بجثتى وهو خارج ، فیرانی ویرى ماذا فعل بي.
ووقفت أمام اللوحة النحاسية التى تحمل اسمه أفكر، ولا أفكر.. وقلت لنفسي في جرأة الضعيف الذي يريد أن يمنح نفسه بعض الشجاعة :
- فلأدخل .. ماذا سيحدث؟ هل ستنطبق السماء على الأرض!.. لن يحدث شئ. سوف يقابلني بفتور غاية ما في الأمر، أو سوف يقابلني بحرارة أكثر ما في الأمر.. ولن يكون هناك فارق كبير عندى بين هذا وذلك .. فلقد انتهيت من حبه ، وخرج " ضياء " من حياتى ونطاق امالي وأحلامي...
لكني أريد أن أراه .. أريد أن أنظر في عينيه، وليكن ما يكون. فهو الوحيد الذي أحبه.. وهو الوحيد الذى يفهمني.. وتذكرت كرامتي التي أنسيتها طوال هاتين السنتين..
ولكن اليوم، بل هذه اللحظة، أستطيع أن أراه.. ولا أرى دخـلا للكرامة في ذلك.. فأنا لا أريد أن أتزوجه، فهو رجل متزوج.. وإن لم يكن متزوجاً ، فلست أفكر في الزواج منه...
أنا لا أريد منه سوى أن أراه .. وأحادثه .. ودفعت الباب برفق واخترقت الدهليز الطويل الذى يقود الى حجرته.. ورأيت باب حجرته مغلقاً فانتابني اليأس.. لكن الأمل دفعني الى أن أدفع بابه فانفتح، وخفق قلبي بشدة ، كأنني مقدمة على عمل جلل، وليست مجرد زيارة قصيرة لدقائق.
ورأيته جالساً إلى مكتبه فاشتدت خفقات قلبي، ورفع رأسه من فوق بالأرواق المتراكمة على مكتبه .. ورآنى . وظل برهة قصيرة محدقاً في ، وأنا واقفة على عتبة الباب لا أستطيعه أن أدخل، ولا أن أخرج ، كأنما ُشلت قدماي.. ثم أفاق لنفسه، وسمعته يقول وهو يقف ويقبل نحوى باسما:
- أهلاً شوقية .. اتفضلي ...
وتحركت نحوه فى بطء ، وأنا لا أدرى تماماً بكياني.. واقتربنا من منتصف الحجرة، ولم يكن يفصلني عنه الا خطوة واحدة.. ورأيته يمد يده إلىَ .. ورفعت يدى لأصافحه.. فأحسست بها ثقيلة كأنها نصف مشلولة ، واستقرت يدى فى يده برهة قصيرة أحسست فيها بكل عواطفي القديمة تتقد فجأة.. ولم أستطع .. وجدتني من حيث لا أدرى بين ذراعيه وفي أحضانه، رأسي على صدره العريض، وشفتاه الدافئتان تلثمان كل جزء من وجهي وشعرى.. ودموعى تبلل وجهى...
وأفقت لنفسي بعد لحظة .. آه .. ما هذا الذي فعلت.. وسحبت نفسى منه شيئاً فشيئاً، وابتعدت عنه، وجلست على كرسى . رأيته أمامى وجلس هو إلى جوارى.. وقلت بعد فترة صمت في صوت ضعيف ممزق :
- " ضياء " .. أنا آسفة لأننى أتيت إليك اليوم، لكني تلقيت صدمة ثانية من
" رءوف " .. و...
وقاطعني قائلا :
- رءوف ؟ .. منْ هو رءوف ؟.
- رجل .. مثل كل الرجال.. عرفته صدفه بعد أيام من قراءتي لخبرزواجك، وكنت يائسة غاضبة مصدومة.. وكان رقيقاً مهذباً لطيفاً ... ورحبت بصداقته.. ثم حبه . الحق أنى لم أحبه يا " ضياء " ، لكني كنت في حاجة الى أي أحد، رجل أو امرأة.. ليسرى عنى.. ليحدثني ، ليملأ الفراغ الذي خلفه فراقك في حياتي....
وكان " رءوف " رقيقاً حنونا، وكنت في حاجة الى الرقة والحنان ... وأحبنى، أو هكذا قال.. ولم أنفذ الى أعماقه ، لأعرف هل هو صادق أم كاذب.. ماذا كان يهمنى من أعماقه ؟ . فليكن ما يكون، كاذبا أو صادقاً ، فأنا لا أريدالا أن يظهر لى الحب.. أن يعاملني برفق.. أن يحنو علىَ ساعة لقائى به وكفى .. لا أريد أكثر من ذلك شيئاً....
لقد علمتني صدمتي فيك أن أقنع باليسير.. أن أكتفي بالظاهر ولاأنبش في الأعماق.. بل أهرب منها حتى لا تصدمني حقيقة أخرى ... وقلت لنفسى فلأحاول أن أعيش في سعادة كاذبة ، على أن أعيش في واقع صادق مؤلم...
ولكن لم أستطع يا " ضياء " .. لم أستطع أن أغير نفسى طويلا.. سرعان ما أفقت لنفسي، أو أفاق لنفسه.. ولعله كان أيضاً هارباً مثلى من صدمة، ويكتفى مِنى بظاهرى ، ولا يبحث عن أعماقي.. أو لعله كان يريد أن ينسى حبا قديماً .... ومثل هذه الأشياء لا تدوم طويلا يا " ضياء "....
وكان " ضياء " يجلس الى جوارى.. يستمع وفى عينيه ألم بليغ... وأحسست بسعادة خفية ، حينما لمحت الألم في عينيه. لم أدر لماذا ؟ . لكننى شعرت أنه كان يحس وأنا أتكلم ، أنه المسئول عما حدث وأنه سبب شقائی...
" ضياء" يتألم !!.. ومن أجلى ؟!.
هذا هو " ضياء " كما عرفته، وكما أحببته .. وهذه هي نظرة الألم في عينيه من أجلى لم تتغير ولم تتبدل .. كأنه لم يصدمني أبداً.. كأنه لم يهجرني أبداً. كأنه لم يتزوج امرأة غيرى.
ولم أعاتبه .. بل لم أفكر فى أن أعاتبه، رغم أننى كنت أنوى ذلك في أول لقاء لي بعد زواجه.. لكنني نسيت أنه خان عهدى، أحسست من نظرة الألم في عينيه ، أنه إنسان صادق ، أنه لا يستطيع أن يخدع أحداً، لاشك أنه قد ُأجبر على الزواج إجباراً، ولعل وراء ذلك سبباً لا أعرفه ...
وعاد الىَ حبى القديم له دفعه واحدة ورآه في عيني.. فهو يفهم نظراتي وقلت له :
- " ضياء " .. إنك رجل فاضل.. أفضل رجل عرفته. إنك إنسان نبيل ، أنبل انسان عرفته...
كيف قلت له ذلك ؟ ، لم أدر ؟.
أفضل رجل ! أنبل رجل ! كيف؟.. هو الذى لفظنى كالنواة، وتزوج امرأة غيرى دون أن يطلعني على الخبر! .
لم أعرف كيف قلت له ذلك.. لكنى أحسست في عينيه الصدق، والفضيلة، والنبل، وأحسست في لمسات يديه ، العاطفة الحقيقية التي لا تعرف الزيف أو الكذب...
ومضى وقت الزيارة سريعا .. لم أشعر ، إلا وأنا أقف وأقول له :
- طيب يا " ضياء ". اشكرك على حسن استقبالك لي. وأرجو لك حياةسعيدة ..
ومددت له يدى لأنصرف، وظل ممسكاً بها بعض الوقت، ثم قبلها أصبعا أصبعا، كما تعود أن يفعل طوال سنوات حبنا.. وقال لى :
- شوقية .. هل سأراك مرة ثانية ؟.
- طبعا .
- متى ؟
- قريباً جداً ..
وهممت بأن أخطو نحو الباب، لكننى تذكرت شيئاً فجأة ، فقلت له :
- على فكرة .. ما رأيك في الزواج بعد أن تزوجت ؟ .
ولم يرد بسرعة .. ولم يبتسم كعادته .. أخذ يفكر برهة قبل أن يجيب، وأحسست من تردده أنه يحاول أن يغير شيئاً ، مما كان يريدأن يقوله، وأشفقت عليه من أن يقول ما يريد.. وأشفقت على نفسى من سماع ما سيقوله.. فقلت له بسرعة:
- لا تفكر كثيراً يا " ضياء "، فأنا لا أريد أن أسمع الرد أيا كان ... سأحاول أن أراك مرة أخرى ...
وخرجت مسرعة .. خرجت أعدو كأنما ورائي شبح يطاردني... وواصلت عدوى حتى وصلت الى بيتى ن وجريت الى حجرتي ألهث وأغلقتها على نفسى .. آه .. ما هذا الذي فعلت؟.
وتقلبت في فراشي .. ثورة عارمة تجتاح نفسى. ليست ثورة على " ضياء "، وليست ثورة على أحد.. وانما ثورة على نفسى.. وسمعت كلمة تتردد في أعماقي ...
كرامة ..
كرامة!. تلك الكلمة التي ترن فجأة في أعماقي ، وتحاسبني بلا رحمة ولا شفقة.. " ضياء " ؟. مرة أخرى " ضياء " ؟. تذهبين إليه ، الرجل الذي خان عهدك .. الرجل الذى أحبك خمس سنوات، ثم تزوج امرأة أخرى في يوم وليلة ؟ . ثم تتهاوين بين ذراعيه ، وتذرفين الدموع بين يديه، وتقولين له أحبك، وتتركين له شفتيك مرة أخرى؟.
ثم تعترفين له بما كان بينك وبين رءوف ؟.
ما هذا الذي فعلت ؟ .
وأحسست بضغط شديد فى رأسى، كأنما يوشك أن ينفجر.. وتقلبت في الفراش أبحث عن شئ من الراحة ، ووضعت الوسادة على رأسي ، وضغطت عليها بكل قوتى لأوقف هذا السيل المتدفق من الأفكار. لكن رأسى ظل مشحونا مضغوطاً..
وفجأة دق جرس التليفون.. فرفعت السماعة الى أذني في إعياء...وجاءنى صوته نفسه.. " ضياء" الصوت الذى كان يحدثنى كل يوم خمس سنوات متتالية .. كيف أنساه... الصوت العميق الدافئ الحاني.. كيف أنساه ؟؟. قال بصوته المتلهف القديم :
- شوقية .. أريد أن أقابلك الليلة.. لقد خرجتِ مسرعة ، فلم أقل لكِ كل ما أريد.. هل أستطيع أن أراك الليلة ؟ .
وسكت قليلا لأفكر . وكنت في حاجة الى شئ يريحني من عذابي.. ويخمد تلك الكلمة التي تتردد فى أعماقي " كرامة" .. تلك الكلمة القوية الطاغية التي تسحقني سحقاً .. كرامة !
واردت أن أخفف رأسى من ثقله، وقلبي من لوعته، فقلت له وأنا أستعين بكل ما في نفسى من شجاعة وقوة :
- اني آسفة يا " ضياء "، لا أستطيع أن أراك مرة أخرى...
ووضعت السماعة في مكانها، وعدت الى فراشي خفيفة، كأنما فقدت نصف وزني.. ووضعت رأسى على الوسادة.. رأس هادئ مستقر.. وبحثت عن تلك الكلمة الجبارة التي ترن فى أعماقي فلم أجدها .. لا أدرى أين اختبأت ِمنى.. وابتسمت لنفسي في زهو وانتصار وقلت:
- جبانة ! جبانة تلك الكلمة التي اسمها " كرامة " !.
من المجموعة القصصية : " وكانت هى الأضعف " 1977اصدار أول
2018 اصدار ثانى
---------------------------------------------------------------------
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |