عندما يتحوّل التّاريخ إلى عقدة

الطايع الهراغي
2022 / 10 / 3

"لاحق كلب الصّـيّاد يوما أرنبا فعجز عنه ولم يستطع إدراكه.فسأل الكلب الأرنب:كيف تسبقني وأنا أقوى منك ؟ فأجاب الأرنب: " لأنّي أعدو لحسابي وتعدو لحساب صاحبك".
(عبد الرّحمان الكواكبي).
لقد انتهيت أنا وشعبي إلى اتّفاق يرضينا جميعا، يقولون ما يشتهون وأفعل ما أشتهي
(فريديريك الأكبر1740 / 1786)/ ملك بروسيا .
"العقل إذا لم يتمرّد على الظّلم لا يبدع".
. (نوّال السّعداوي))

الاستبداد هو بالتّعريف طفولة الإنسانيّة البائسة، آفة الآفات، جائحة زاحفة من غابر العصور، تطاول صارخ وبربريّ على الزّمن وعلى التّاريخ، إحياء لنمط حكم عجّلت كلّ البلدان التي بلغت درجة من التّمدّن والرّقيّ الحضاريّ والثّقافيّ بتشييعه إلى مثواه الأخير،ويُفترض أنّه بات في ذمّة التّاريخ،تحديدا في الرّكن المخصّص للكائنات المنقرضة، بقايا مخلّفات بائسة تلطّخ ما أبدعته كلّ التّجارب البشرية لتقطع مع ما اعتبرته إجحافا في حقّ الإنسانيّة الباحثة عن علاجات لهموم العصر بما يتلاءم وقانون العصر وحاجيّات الآن، وليس التّدثّر برؤية وبحلول بليت وباتت عارا وعبئا وموروثا تعيسا من ماض أكثر بؤسا.
السّياسة في الدّرجة الصّفرلأبسط تعريفاتها وفي فهمها البسيط - كما ثبّت ذلك عبد الرّحمان الكواكبي في مؤلفه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" هي"إدارة الشّؤون المشتركة بمقتضى الحكمة"، وعدوّ السّياسة الاستبداد بما هو"التّصرّف في الشّؤون المشتركة بمقتضى الهوى"..

01/ ليس على المريض حرج
انتفاخ الأنا حالة مرضيّة ، أحيانا هذيانيّة ، في موضوع الحال يتعلّق الأمر بذات متعطّشة إلى التّسلّط لإشباع نقص. إعلاء الأنا هي لبّ "سياسات" وإجراءات قيس سعيّد (هذا إذا أبحنا لأنفسنا أن نتحدّث عن سياسات) وهو ما ينطق به الدّستور "الطّغراني" بشكل مباشر وبلا أدنى مواربة، ويعزّزه صلف ردود فعل الشّيخ الرّئيس على كلّ معارضيه ومنافسيه في جدال يتضارب مع أبسط ما تمليه المسؤوليّة الأولى في الدّولة من أبجديّات البرتوكول الرّسميّاتي. جدال يستبطن نزعة تشفّ ساديّة يجد صاحبها متعة في إرضاء الذّات والكذب عليها بشحنها بالأوهام.
إذا كانت النّهضة- المشدودة شدّا إلى مرجعيّة الحاكميّة- والسّابحين في فلكها قد استماتوا طيلة العشريّة الضّائعة في تحويل الحكم إلى تحكّم، فإنّ قيس سعيّد والمتهافتين على مبايعته - تقودهم في ذلك عقدة تاريخ كانوا دوما غرباء عنه- قد جعلوا في زمن قياسيّ من التّحكّم مطيّة للانتقام من الحياة السّياسيّة -وليس فقط من الفاعلين السّياسيّين- والاعتداء عليها بالفاحشة وبشكل بدائيّ. وباتت شمّاعة النّهضة مطيّة لتعزيز الاقتناع بنظريّة المؤامرة كتعلّة لتبرير أبشع السّياسات، إعادة إنتاج القديم ورسكلته بخديعة ماكرة وكارثيّة،عنوانها مقاومة الفساد والانتصار لهيبة الدّولة، وسبيلها تعمّد قصف المشهد السّياسيّ وتعفينه لتحويله إلا غرفة الإنعاش وتأليب الرّأي العامّ عليه واستهداف كلّ فعل سياسيّ فكريّ مسؤول منظّم وهادف بأبلسته وإلباسه كلّ الشّرور. تلك هي الوصفة السّحريّة التي سحرت الألباب واشرأبّـت إليها الأعناق ودانت لها الرّقاب وأتتها صاغرة وسبّحت بحمدها الفيالق والحشود .وصْفة هدفها فرض اختيار يتيم، يقنّن ويدستر إعلاء الحاكم فوق المحاسبة بتعميده فرعونا مطلق الصّلاحيّات، إماما -على مذهب بعض غلاة الشّيعة- لا يخطئ لا سهوا ولا عمدا، شطحة وافقت هوى في نفس الحاكم بأمره، حاكم نصّبته الصّدفة سيفا مسلّطا على رقاب العباد، علاقته بعالم السّياسة وخفاياها كعلاقة أهل الكهف بعالم هجروه منذ 300 سنة، حاكم قدره أن يصنع لنفسه وهم أمجاد بالانتقام من التّاريخ وإطلاق العنان للتّخيّلات تشيد قصورا في جنان وهميّة ترتع فيها في كلّ آن وحين.
غربة حاكم قرطاج عن الشّأن العامّ وعدم انخراطه في دواليب أيّ فعل مجتمعيّ سيكون حاجزا اسمنتيّا مسلّحا يحول دون التّفريق بين عوالم التّهويمات ومتطلّبات الإكراهات السّياسيّة وسيولّد استعداء لكلّ الأجسام الوسيطة من أحزاب ومنظّمات ومؤسّسات وجمعيّات، فهي كوابيس تذكّره بماضيه الخالي من كلّ ارتباط بالشّأن المجتمعيّ فتقوّي لديه نزعة الاستئصال والسّحل.
في هذا الإطار لا في غيره تفهم "إنجازات" البناء الشّاهق لقيس سعيّد بدءا بتعطيل كلّ المؤسّسات مرورا بتشنّج علاقات الرّئاسة ودوائر الدّولة – وحتّى الإدارة-في تعاطيها مع المؤسّسة القضائيّة واالتّمثيليّات النّقابيّة والجمعياتيّة والحزبيّة وانتهاء ببدعة البدع، القانون الانتخابيّ الجديد.

02/ العـرس القبليّ/ لعنة البناء القاعديّ.
على خلاف كلّ الدساتير التي تستفيد من التّجارب التّقدميّة والدّيمقراطيّة وتعتمد جملة من المقارنات تراعي ما تتطلّبه المراحل الانتقاليّة إذا رامت فعلا أن تقيم مرحلة تأسيسيّة، جاء دستورالجمهوريّة الجديدة نسيج وحده، لا طعم ولا رائحة .
وعلى شاكلته سيكون القانون الانتخابيّ الجديد.
القانون الانتخابيّ الجديد "عبقريّة الأفكار الجديدة" التي ستجتاح العالم " كما هو مسطور في مطلع الدّستور وكما يلهج بذلك المغالون من شيعة حاكم قرطاج، هل هو الدّفعة الأخيرة من فاتورة الحساب على العقاب؟ لاشيء يسمح بتوهّم ذلك .فما بالك بتصديقه. هو جزء من كلّ، استتباع طبيعيّ لـ"مسارات" 25 جويليّة، استنساخ وفـيّ للتطلّعات التي طبعت الدّستور.
كلّ حديث عن نزوعه الاختزاليّ الإقصائيّ لا معنى له لأنّ لبّ الدّاء يعشّش في الأصل لا في الاستتباعات ،استغلال الرّئيس للحظة25 جويلية لاغتصاب كلّ السّلطات والاحتكام إلى الفرمانات السّلطانيّة العليّة (المراسيم )لإدارة شؤون "المملكة"، تحويل المؤقّت إلى دائم عبر الاستشارة الملكيّة وتتويجها بالاستفتاء على الدّستور الذي تضمّن في أحد فصوله ما يضمن تزكيّته أيّا كانت النّتائج ونسبة المشاركين في كرنفال التّأييد والمبايعة.
فهل كان يمكن للقانون الانتخابيّ أن يكون نشازا وهو المحكوم عليه بأن يكون أسيرا لعقليّة منتجه ورهين فلسفة الدّستور التي حكمته؟. ق
قانون قُـدّ على المقاس، نزعة الأنا فيه بيّنة. أسلم تعريف له هو الإقرار بأنّه "تعويذة" قيس سعيّد، قانون اتّكأ على خلفيّة البناء القاعديّ في أكثر تجلّيّاته هلاميّة .
تاريخ الانتخابات التّشريعيّة- تماما كموعد الاستفتاء على الدّستور- مشبع بالدّلالات.فإذا كان الاستفتاء التّزكيّة قد أريد له أن يكون مهرجانا احتفاليّا بحركة25 جويلية كفاتحة لعهد جديد، هو عهد قيس سعيّد كما ارتسمت معالمه في مخيّلة السّيّد الرّئيس وبطانته الخاشعة لآياته البيّنات، فإنّ17 ديسمبر تكريس عمليّ لحملة التّشنيع بمسار نضاليّ وإرث يُعدّ مفخرة التّونسيّين. في ذهن الفرعون 14جانفي لعنة،ردّة، التفاف على مسار امتدّ من 17ديسمبر إلى 14جانفي وأجهضه تحالف الأزلام والتفافهم على مقاصده إلى أن قيّضت له العناية الإلهيّة من يبعثه حيّا بعد عشر سنوات عجاف.
"لطخة" الانتخابات التّشريعيّة - في طبعتها الحداثية جدّا – إرساء لحجر الأساس في البناء الشّاهق غير المسبوق في التّاريخ بشهادة رأس المفسّرين العلاّمة أحمد شفتر، ثورة عابرة للقارّات، منفلتة من أسر الزّمان والملابسات، هديّة النّاطق الرّسميّ باسم "الشّعب يريد" إلى أمم العالم وشعوبه.رؤية جديدة، بفلسفة جديدة، بزعيم لم ير الدّهر له مثيلا، إذا نطق أفحم وأتاه الدّهر منشدا..
الفلسفة الجديدة للجمهوريّة الجديدة قطع مع المألوف، تطليق لترّهات النّخب، فتح استباقيّ لما قد يجول بخاطر الأمم بعد مئات السّنين .عمادها الفرد لا المواطن ،الجهة لا الوطن،القبيلة والعرش لا المجتمع، الذّات الهائمة المتذرّرة لا المجتمع. تطليق النّظرة الشّمولية التي كشف حراك 25جويلية خورها واستبدالها بنزعة اختزاليّة عيبها الوحيد عجز النّخب عن تمثّلها.
المترشّح أسير هواجس قبيلته وعرشه، وبدرجة أقلّ جهته. إطلاق العنان لإنعاش ما اعتقد التّونسيّون ونخبهم في لحظة خيلاء وتدفّق أحلام أنّ دولة الاستقلال قد حسمته .النّائب ليس مسؤولا أمام المجتمع بل أمام ناخبيه من معتمديّتـ(ه) وعرشـ(ه) وأهلـ(ه). فإليهم يعود الفضل في تنصيبه على عرشهم، وأليهم يعود السّيف المسلول على النّائب -المنتخَب عمليّا بشكل مؤقّت-: سحب الوكالة عقابا له على ما يرونه فشلا في خدمتهم إن لم يكن انتقاما بدائيّا من "ملّة" أخرى فشلت في تصعيد مرشّحها. أمّا عن تواتر الانتخابات الجزئيّة بموجب وجيه، بنزوة، بعنتريّة من العنتريّات التي لا تزال معشّشة في بعض الذهنيّات فحدّثْ ولا حرج. لنقل إنّه ضرب من ضروب تنشيط المشهد السّياسيّ. فماذا عن الأحزاب السّياسية وسائر الوسائط ؟
رجمها قيس سعيّد وأصدر فيها حكما باتّا بأنّ زمانها قد ولّى .زائدة دوديّة لا يليق بها غير التّشنيع والسّخريّة .سحلتها بدائع العصر الإخشيديّ وأقدم على سلخها "المعلّم الأوّل" ذات فجر من يوم الخامس والعشرين من جويلية. وزاد جيش المناصرين، ممّن حضي بشرف مبايعة المنقذ من الضّلال، في تعميق جراحها بالارتماء في أحضان الشّيخ الرّئيس الذي لا يعنيه رغبات الموالين أنصارا ومهاجرين ولا طموحهم ولا طمعهم.
الشّيخ الرّئيس مسكون بإقصاء الجميع، بتمييع صورة مشايعيه بالضّحك على ذقونهم.
كيف سيكون مجلس النّواب المقبل؟
صالون اجتماع ممثّلي العروش والقبائل.لا شيء يحمع بينهم غير انتظار ما يعرضه سيادته على سيادتهم للتّزكيّة والتّمرير وفرصة –إذا أتيحت- للتّنابز بالألقاب .
وكيف سيكون المشهد السّياسيّ في ظلّ المدّة النّيابيّة المقبلة؟
أحزاب سياسيّة، بقطع النّظر عن عمق انغراسها وشكل تموقعها، وأيّا كان الموقف منها ومن رؤاها ومن تخندقها، على تخوم أسوار البرلمان، ولكنّها ليست- موضوعيّا- خارج اللّعبة السّياسيّة. ونوّاب منتخبون ولكن لا تأثير لهم في الأحداث السّياسيّة وفي الحراك الاجتماعيّ. هم شكليّا ورسميّا ممثلو الشّعب وعمليّا ممثلوّ ذواتّهم ماداموا يفتقرون وجوبا لأيّ برنامج سياسيّ اجتماعيّ ثقافيّ.
إنّه التّصحير المقصود والمدروس لسائر مجالات الحياة فكريّها وسياسيّها واقتصاديّها. إنّها فعلا ردّة مناهضة لأيّ انتماء وطنيّ، رهانها الفرد المفرد المجرّد من كلّ الأبعاد.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي