مفهوم الوطن والحب فى عيد الأم

نوال السعداوي
2022 / 3 / 31

( يوم 21 مارس 1989 )
----------------------------------------------------------------------------------
جائتنى فتاة فى الخامسة والعشرون من عمرها من قلب الصعيد ، من قرية بالقرب من أسوان ، قالت لى : أريد أن أتكلم معك ، أريد منك أن تكونى أمى ، وقد سئمت من أبى وأمى فى الصعيد ، حملت حقيبتى فى الليل ، وركبت القطار ، وجئت إلى القاهرة لأتكلم معك ، تخرجت فى الجامعة فى كلية الآداب قسم الفلسفة ، قرأت كتباً كثيرة ، وانفتح عقلى على أشياء كثيرة جديدة ، ولم تعد لى حياة داخل أسرة مازالت تعيش فى القرن التاسع عشر ، وتؤمن بوجود الجن والعفاريت ، وأن المرأة نصف الرجل واجبها الطاعة . وظيفتها الأساسية فى الحياة الزواج وولادة الأطفال وأعمال البيت ، حتى أخى الأكبر الذى تخرج فى الجامعة وحصل على الدكتوراة ، فرض على زوجته أن تتفرغ للزواج والأمومة ، ويقول لها : الأمومة عطاء وتضحية بلا مقابل مثل حب الوطن ، فالوطنية هى العطاء والتضحية بلا مقابل مثل الأمومة .
كانت الفتاة تنتفض وهى جالسة ، جاءتنى من محطة القطار مباشرة ، ليس لها أقارب فى القاهرة ، بشرتها سمراء شاحبة ، ووجها نحيف . عيناها سوداوتان مملوءتان بريقاً ، ذكرتنى بنفسى حين كنت فى أول الشباب والعائلة من حولى متجمعة ، العمات والخالات والأعمام والأخوال وأبناؤهم وبناتهم وجيرانهم ، والجميع يهتفون فى نفس واحد : الزواج مصير البنت والأمومة هو الدور الأسمى للمرأة ، وإذا تعارض الزواج مع طموحك الشخصى فى الطب والأدب فاختارى الزواج والأمومة . لأن المرأة التى لا تكون زوجة لا تلد أطفالاً فهى امرأة عقيمة كالشجرة بلا ثمار .
وسمعت الفتاة تقول : لا أريد أن أتزوج ، ولا أريد أن ألد أطفالاً ! إن العالم ملىء بالأطفال الجوعى المشردين ‍! فهل أضيف إليهم أطفالاً أخرين ؟ . رأيتهم راقدين على الرصيف فى محطة القطار ، أطفال صغار بلا آباء ولا أمهات ولا عائلات ولا بيوت ولا مأوى إلا الشارع ورصيف المحطة ، أحد الأطفال اقترب ِمنى وأنا أهبط من القطار ، عمره لا يزيد عن سبع سنوات ، يرتدى جلباباً ممزقاً ، يرتعد تحت ضربات الهواء الصاقع ، وأنا متدثرة بالبالطو الصوف ، وتحت البالطو بلوفر آخر صوف ، قدماه حافيتان ، وأنا أرتدى حدذاءً جلدياً متيناً و جورباً من الصوف ، كان الطفل يقترب ِمنى ويمد لى يده ينهج بصوت مبحوح : " حسنة لله يا ستى " قلت لنفسى " هذا الطفل يشبه طفلى أحوطه بذراعى و آخذه إلى بيتى " .
قلت للفتاة : " تأخذيه إلى بيتك ؟ " .
قالت : ليس عندى بيت فى القاهرة ، ولكنى أحمل شهادة جامعية ، ويمكن أن أشتغل وأفتح بيتاً ، ويصبح هذا الطفل هو طفلى ، إنه يشبه طفلى ، عيناه بالضبط هما عيناه مملوءتان بالبريق والدموع .
قلت للفتاة : " وهل كان لك طفل ؟ " .
قالت الفتاة : لم أتزوج ولم ألد . لكنى كنت أحلم دائماً بهذا الطفل يخطر إلىَّ فى الحلم بعينين مملوءتين بالبريق والدموع ، وهو يشبه بالضبط الطفل الذى تقدم نحوى وأنا أهبط من القطار ، أعطيته معطفى الصوفى وخمسة جنيهات وطلبت منه أن ينتظرنى فى المحطة حتى أعود إليه .
قلت للفتاة : وستعودين إليه ؟.
قالت: نعم .
قلت : وتعودين به إلى بيت أسرتك فى الصعيد ؟.
انتفضت بذعر وقالت : يقتلنى أبى إذا عدت وحدى بعد أن هربت . فما بال أن أعود ومعى طفل ؟ . سوف يتصورون نه طفلى ، وأنه ثمرة حب محرم أو حمل سفاح .
قلت : لكن الطفل كما تقولين فى السابعة من عمره وأنت كم عمرك ؟ خمسة وعشرون عاماً ؟ ، معنى ذلك أنك كنت فى الثامنة عشر وقت ولادته ، ثم كيف يحدث ذلك كله وأنت فى بيت أسرتك تلميذة بالمدرسة ؟ ، لا أظن أن والدك سوف يشك فى الأمر .
قالت الفتاة : أنت لا تعرفين أبى . إنه يشك فى أخلاقى منذ ولدت ، لم أخرج من البيت إلا تحت رقابته أو رقابة أخى الأكبر أو أخر الأصغر الذى يصغرنى بخمس سنوات ، وكنت فى الخامسة عشر من عمرى ، وأخى الأصغر طفل فى العاشرة ، مع ذلك يخرج معى لحمايتى .
قلت : وأمك ؟ أليس لها دور ؟.
قالت الفتاة : أمى تخاف من أبى وتعمل حساب ابنها الأكبر ، وتقول لى تحملَّى يا ابنتى كما تحمَّلت أمك وجدتك وخالتك وعمتك وكل النساء ، هذا مصيرنا يا ابنتى ، فاصبرى لعل الله يرزقك بعريس الهنا يعوضك عن قسوة أبيك ، لكنى لم أسمع كلام أمى ، ولم أنتظر عريس الهنا ، قررت عدم الزواج وعدم الإنجاب ، وكيف ألد أطفالاً يتعذبون كما عُذبت ، وكيف أضيف إلى هؤلاء الأطفال الراقدين على الأرصفة طفلاً جديداً ؟!
* * *
كان ذلك فى بيتى بالجيزة ، بالضبط يوم 21 مارس 1989 ، وكنت أعرف أنه عيد الأم ، وأن الإذاعات تحتفل به بالأغانى والهدايا يقدمها الأطفال لأمهاتهم ، وقد جاءتنى هذه الفتاة من أقاصى الصعيد تطلب مٍنى أن أكون أمها ، وتقول إنها سوف تعود إلى محطة القطار لتحمل بين ذراعيها طفلاً فقيراً يتيماً فى السابعة من العمر ، سوف تكون هى أمه ، وسوف تشتغل وتفتح بيتاً وتعيش معه ، وسوف تعلمه فى أحسن المدارس ولن تفرض عليه القيود التى فرضتها عليها أسرتها ، سوف تتركه حراً طليقاً ينعم الحرية التى حُرمت منها ، وهى فتاة ناضجة فى الخامسة والعشرين من عمرها تحمل شهادة الليسانس من كلية الآداب قسم الفلسفة ، سوف تشتغل ، وسوف تتحدى الكون ولن يقف فى طريقها أحداً . هكذا تقول لى .
وقالت الفتاة : أريد منك أن تكونى أمى .
قلت : وماذا أفعل بالضبط ؟.
قالت : لا شىء ، مجرد إدراكى أنك موجودة فى الحياة يكفينى .
* * *
وضعتنى الفتاة أمام اختبار صعب فى الحياة . هل أشجعها على التمرد والتحدى والسباحة فى المياه الخطرة ضد التيار ؟! أم أتبع نصيحة صديقتى الأستاذة الدكتورة ؟!.
فى مثل هذه اللحظات الحرجة يبدأ الصوت الخافت من أعماقى . قال لى الصوت : ألم تكونى فى عمر هذه الفتاة وتمردت وسبحت فى المياه الخطرة ضد التيار ؟ .لماذا تحاولين الآن الوقوف فى طريقها ؟ ، وليس لك منصب كبير فى الدولة يساعدك فى البحث لها عن وظيفة فى الحكومة ، وليس لك أصدقاء رؤساء الشركات فى القطاع الخاص ، وإن حاولت التوسط لها ربما تكون هذه الوساطة ضدها ، لأنك من المغضوب عليهم ، ولن تفيديها فى شىء ، فاتركيها تشق طريقها فى الحياة ولا تثبطى همتها .
كانت الفتاة جالسة أمامى لا تزال . عيناها سوداوان مملوءتان بالبريق ، تذكرنى بنفسى حين كنت فى عمرها . العينان نافذتان أطل منهما على معدن الإنسان أو الإنسانة . غمرنى إحساس جارف بالثقة فى هاتين العينين المشعتين بالضوء القوى .
قالت الفتاة : لا أريد منك إلا أن تمنحينى الثقة فى نفسى ، منذ ولدت وأنا أحس أن أبى يشك فى أخلاقى ، يتصور أننى مثل الفتيات لا يشغلنى إلا الحب أو الرجل ، وقد كرهت الرجال جميعاً بسبب أبى ، لم أقع فى حب رجل واحد ، ولا أريد أن أتزوج ولا أريد أن أنجب ، سوف أعود إلى الطفل اليتيم الذى ينتظرنى فى محطة القطار ، وسوف أشتغل وأفتح بيتاً ، وأكون أمه التى يحتفل بها فى عيد الأم .
* * *
مضت أعوام واضطرتى الظروف إلى مغادرة الوطن ، لأعيش المنفى خمس سنوات ، وفى عيد الأم 21 مارس 1995 ، جاءتنى رسالة من الفتاة ، كانت هى أجمل هدية أتلقاها فى عيد الأم ، كتبت فى رسالتها تقول : بلغت يا أمى الواحد وثلاثين عاماً ، أصبحت مديرة فى شركة لصناعة الملابس القطنية فى طنطا ، لى شقة جميلة تطل على الحقول الخضراء ، ويعيش معى ابنى ، عمره ثلاثة عشر عاماً ، أعطيته اسم أمى
" رجاء " متفوق فى المدرسة ، ويريد أن يكون عالماً فى الذرة ، ويكتب الِشعر ، أول قصيدة أهداها لى فى عيد الأم منذ أيام ، مطلعها : أمى يا أجمل كلمة فى قاموس اللغة . وقد رأيت أن أرسل إليك هذه الرسالة وأنت بعيدة عن الوطن . لابد أن بك حنيناً للوطن والأهل ، لهذا أكتب وأقول لك : إننى لم أنس اليوم الذى جئت إليك هاربة من الأهل ، كنت أرتعد بالخوف والبرد بعد أن تركت معطفى الصوفى للطفل اليتيم ، لم يعد يتيماً يا أمى ، وأصبح اسمه رجاء ، وجاءت أمى من الصعيد ، ورأت بيتى الجميل فى طنطا ، وفرحت حين سمعتنى أناديه باسمها رجاء ، وجاء أبى أيضاً واطمأن علىَّ ، أكثر ما أسعده أننى أصبحت مديرة لشركة صناعية كبيرة ، أتقاضى كل شهر مرتباً كبيرة ثلاثة أضعاف مرتب أبى ، لكن فرحة أمى كانت بحفيدها رجاء الذى يحمل اسمها ، أكتب إليك يا أمى قبل عيد الأم بأسبوعين ، أعرف أن البريد بين مصر وولاية نورث كارولينا يستغرف على الأقل عشرة أيام ، أرجو أن تصلك الرسالة فى يوم عيد الأم ،لتعرفى أن ابنتك " رشيدة " تذكرك ، وتذكر اليوم الذى فتحت فيه قلبك وبيتك لها ، كان هو يوم مولدى الحقيقى ، لقد ولدت من جديد فى هذا اليوم ، مملوءة بالثقة فى نفسى ، قادرة على أن أحدى العالم !
ابنتك رشيدة أم رجاء
* * *
أمسكت الرسالة فى يدى ، ألامسها بأطراف أصابعى ، كأنما ألامس وجه الوطن ، راحت الغربة . تبدد الحزن ، فتحت نوافذ بيتى لتدخله الشمس ، إنها الشمس ذاتها التى تشرق فى كل بلاد العالم ، أفريقيا و آسيا و أوروبا وأستراليا والأمريكتين ، الوطن ليس قطعة أرض تسقط عليه الرأس ، الوطن هو رسالة مليئة بالحب يأتينى من البعد .
* * *
لا يكون حباً حقيقياً إلا إذا كان متبادلاً . الحب من طرف واحد نوع من العبودية . الهوان والهذاب والاحتراق بنار الحب كلها من بقايا عصر الرق والعبيد . حين كان يُفرض على العبد أن يحب سيده الذى يضربه بالكرباج . ويفرض على المرأة أن تحب زوجها الذى يقهرها ويضربها ويشدها من شعرها .
الحب إن اختلفت أنواعه فهو واحد ، منبعه القلب والعقل و الجسد و الروح فى كيان واحد ، وأساسه الأول هو الأخذ والعطاء ، أى التبادل بالعدل والحرية ، وليس بالإجبار والقوة والجبروت .
وإن حدث الحب من أول لقاء أو آخر لقاء فهو ينشد السعادة واللذة والحرية ، لا يعيش الحب قى التعاسة والألم والقيود ، لا يختلف حب الوطن عن حب الأم أو الأب أو الزوج أو الزوجة أو الابن أو الابنة ، وكلها أنواع من الحب لا تعيش إلا بالتبادل المتساوى أخذاً وعطاءً .
إن الأب الذى يقسو على أبنائه وبناته ، لا يمكن أن يتوقع منهم الحب . إن الوطن الذى يجرد الإنسان من كرامته وحريته وطعامه وشرابه ، لا يكون وطناَ .
الوطن هو حيث يكون العدل ، وحيث تكون الحرية ، وحيث يكون الحب . الوطن ليس هو المكان حيث مسقط الرأس ، بل هو دفء الإنسانية والمحبة والتعاون والصدق والعمل المنتج ، ولذة الإبداع والفرحة بالجديد والتجديد .
لقد مللنا الأغانى الوطنية التى كان يغنيها العبيد أيام المماليك والسلاطين ، ولم نعد نغنى للملك فى عيد ميلاده ، أو الملكة فى عيد زواجها ، فما هذه الأغانى التى تشدنا إلى الوراء إلى عصور الرق ؟ .وما هذه الأصوات التى تأمرنا بحب الوطن بالكرباج ؟ .وكيف أحب رجلاً يذيقنى ألوان الهوان ؟ .وما هذه الأغانى فى عيد الأم دون أن يكون للأم حقوق الإنسان ؟.
* * *

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي