إيفر غيفن-مصر و إدارة الأزمة

صبري الرابحي
2021 / 3 / 29

عندما بدأ المصريون حفر قناة السويس بسواعدهم السمراء لم يكونوا ليتوقعوا ما ستصبح عليه هذه القناة من أهمية بعد أكثر من قرن و نصف في العالم، فعندما اشتغل العقل الانساني على احداث أحد أهم الممرات البحرية وضع بعبقرية متناهية بصمته على جغرافيا المرور السلس و المختصر لآلاف القطع البحرية على اختلاف حمولتها.عودة على تاريخ القناة التي سالت فيها دماء أكثر من 120 ألف مصري قبل تدفق مياه البحرين فيها و التي أسالت ما تبقى من دماء شعبها في حرب الاجهاز على الخيار الاشتراكي الذي أقره "جمال عبد الناصر" حيث أعلن أنه آن للمصريين أن يسترجعوا قناة الدم و لو بالدم في خمسينات القرن الماضي، ما عجل بالعدوان المصلحي الاستراتيجي الذي أراد اثناء المصريين عن تأميم احدى أهم ثرواتهم المستحدثة في العصر الحديث.خلال سنة 2015 توجه اهتمام الدولة المصرية نحو احداث تفريعة جديدة للقناة و التي سوف تمكن من ربح ما لايقل عن 11 ساعة من الانتظار لبعض القوافل البحرية اضافة الى ايرادات مالية هامة منتظرة.لنقل و بكل موضوعية أن المصريين أحسنوا استغلال هذه القناة بل أنها صارت محددا رئيسيا في التعرف على وزن مصر الاستراتيجي في المنطقة و هو ما أثر حتى على الخيار السياسي للدول الكبرى في التعامل مع مصر ما بعد مبارك و هو ما تأكد في تعاملها مع مصر ما بعد مرسي.شكل جنوح الناقلة البحرية "ايفر غيفن" نقطة فارقة في تاريخ القناة، كما شكلت حدثا تاريخيا مهما تسبب في تعطيل النقل البحري العالمي حيث يأمن المرور عبر هذه القناة 12 % من التجارة العالمية، يكفي أن نعلم أن هذا الحدث أثر بشكل مباشر على أسعار النفط في العالم و التي ارتفعت بنسبة 5 % اضافة الى تأثر الكثير من الدول بهذه الأزمة كارتفاع أسعار اللحوم في الأردن بقيمة 3 % مثلا و توقف امدادات أوروبا بالغاز السائل.وسط هذه الأزمة انطلقت عديد الدول في عرض خبراتها و خدماتها على مصر للتدخل لفض هذا المشكل المقلق و الذي استمر قرابة الأسبوع و الذي بدأ من خلال تعاون الشركات الهولندية و اليابانية مع السلطات المصرية لاطلاق احدى أهم عمليات تعويم قطعة بحرية جانحة بتدخل من الشركة المالكة للسفينة. كما أعلنت السلطات المصرية تطلعها للتعاون مع الولايات الأمريكية لحل هذه الأزمة و التي أعلن رئيسها أن بلاده "تملك معدات و امكانيات ليست متوفرة لدى أغلب الدول".في ذات السياق عرضت تركيا خدماتها من خلال سفينة "نانه خاتون" العملاقة حيث ارادت تركيا استثمار الأزمة لاظهار امكانياتها البحرية و فتح قناة تواصل جديدة مع النظام المصري بعد تداول التضييق على معارضيه على الأراضي التركية و بالتالي تحولت أزمة تعطل التجارة العالمية الى موضوع سجال سياسي استراتيجي تبرهن فيه الدول من خلال ديبلوماسياتها عن براعتها في ادارة الأزمة سواء كان ذلك عبر استعراض الخبرات و الامكانيات أو المكابرة و الاصرار على المثابرة رغم كل شيء.في الجهة الأخرى من خارطة المعسكرات طرحت روسيا من جديد فكرة احداث ممر بحري بديل لقناة السويس استغلالا منها للأزمة لتدعو الى ضرورة تطوير الممر البحري عبر القطب الشمالي الذي أصبح ضروريا في ظل تزايد الطلب العالمي على النقل البحري و الذي لم يعد يحتمل التعاطي مع أزمات توقف النقل كأزمة "ايفر غيفن".ايران بدورها دخلت على خط الأزمة و دعمت بشدة المقترح الروسي.و في ظل تواصل الأزمة عادت مصر لتعلن عبر هيئة قناة السويس أن سبب الجنوح قد يكون تقنيا أو شخصيا و هو ما يعد تراجعا عن تصريح سابق بخصوص تأثر السفينة بالعوامل الجوية كعاصفة ترابية أساسا و هو ما أدى الى الحادث و هو تصريح ربح الوقت بامتياز.و بالرجوع الى جملة هذه المواقف نتبين وزن القناة و أطماع القوى الكبرى في السيطرة على المسالك البحرية التي تعتبر محددا هاما في التجارة العالمية بحيث تمكن هذه المسالك من التحكم في الأسعار و الهيمنة على الاقتصاديات المرتبطة بالبضائع المنقولة اضافة الى عامل مهم جدا و هو قطع الطريق أمام البدائل الأخرى من نقل جوي أو عبر السكك الحديدية و التي لم تعد مطروحة لعديد الأسباب مرتبطة أساسا بالتكلفة و الوقت و الطاقة.انتهت اذن أزمة "ايفر غيفن" حيث انتشر منذ ساعات الصباح الأولى على صفحات التواصل الاجتماعي فيديو لعمال فريق الانقاذ المصري و الذي امتزج فيه التكبير بالحمد لنجاح عملية التعويم و بداية تحريك هذه القطعة البحرية نحو البحيرات المرة و بالتالي استغل المصريون الفرصة للاحتفال و البرهنة مجددا على أن السواعد المصرية كفيلة بارجاع الأمور الى نصابها و انتصارها بعودة قناة السويس للمصريين كما لم تكن من قبل.هذا الحدث أظهر أن ادارة مثل هذه الأزمات لا ينحصر في حسن التخطيط و وضع بدائل الفشل بقدر ما يستوجب الوعي بما يتهدد المشروع برمته و بما تستبطنه الأطراف الدولية المتصارعة على أحد مواقع السيادة على التجارة العالمية و الذي يجب أن تبذل مصر جهدا أكبر للحفاظ عليه بعد قرن و نصف من اعادة تشكيلها للمشهد البحري العالمي الذي كان مدينا لفاسكو دي غاما قبل أن يصبح مدينا للعامل المصري البسيط و الذي ارتسمت شمسها في سماره و شكلها في ملامحه.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي