محمد فتُوح

نوال السعداوي
2020 / 10 / 7

هناك وجوه أو شخصيات تلقاها لأول مرة، فتصبح جزءًا منك، لا تفارقك، وإن غاب الشخص فى المنفى أو السجن أو الموت. وعاش صديقنا الحميم، الذى لا يُنسى، «محمد فتُوح»، هذه المصائر الثلاثة، المنفَى داخل الوطن مثل غيره من شباب الكُتاب والمفكرين، السجن دون قضبان مثل العاشقين للحرية والعدل، لم يحْظَ أبدًا بالشهرة أو المال أو المنصب. كان يكتب المقالات والكتب، دون أن يحصل على مليم واحد، مثل أغلب الشباب والشابات. كان يكتب فى الفلسفة والسياسة، يؤلف الموسيقى والألحان، كله ببلاش، كان سعيدًا فى حياته أكثر من أصحاب المال والنفوذ، يستمد سعادته من الإبداع والخلق والسباحة ضد التيار، والتمرد على الزيف والكذب، وبيع المبادئ فى المزادات، هل هناك سعادة أكبر؟؟

بعد أيام، بالتحديد فى 13 أكتوبر هذا العام، تكون قد مرت اثنتا عشرة سنة على وفاة «محمد فتُوح»، بعد مضاعفات عملية زرع كبد، لم يكن فى الواقع يحتاج إليها ليكمل حياته، لكن جشع بعض الأطباء، وانعدام ضمائرهم، وتأكدهم من عدم العقاب، جعلتهم يعطونه بعض الأدوية، التى ضاعفت من تليف الكبد، ليقنعوه بأن حياته مرهونة بعملية زرع كبد. باع «محمد» ما وراءه وما أمامه، واستدان المبالغ الخيالية المطلوبة، ليموت وهو فى ريعان الشباب، فى سن التاسعة والأربعين.

حصل «محمد فتُوح» على درجة الدكتوراة فى العلوم البيئية، ربما أراد أن يهديها لأبيه، كما فعلت مع أبى، أردت لأبى أن يفرح بابنته الدكتورة، ثم ألقيت بالشهادة فى صفيحة القمامة بعد موته. لكن والد الدكتور «محمد فتُوح» مات قبل أن يفرح به، قبل أن يرى أول كتاب يحمل اسم ابنه الوحيد.

لم تعد علاقات الدم، أو صلات الرحم، أو ما يسمى «العائلة البيولوجية»، هى التى تحدد لنا الأصدقاء والصديقات. أصبحت الصداقة مثل الحب، تموت أو تنمو بين الناس، مع نمو العقل والإنسانية والصدق والأمانة والوفاء.

بدأت صداقتى للدكتور «محمد فتُوح» منذ عام 1982، حين بدأنا نكون الفرع المصرى لجمعية تضامن المرأة العربية. وفد إلينا الكثيرون من الشابات والشباب، منهم «محمد فتُوح»، الذى انضم إلى اللجنة الثقافية للشباب، وإلى فريق الموسيقى والشعر، كان عزفه على العود مثل صوته فى الغناء، يجمع بين القوة والرقة، النقاء والاستغناء، مثل شخصيته وإدراكه معنى الرجولة. لم يكن له شارب ولا لحية أو غيرهما مما يسمى فى علم البيولوجيا أو الطب «المظاهر الثانوية للذكورة»، كان واثقًا بنفسه الأصيلة المتفردة، لم يكن فى حاجة إلى المظاهر الثانوية البيولوجية ليقول أنا راجل. كذلك أيضًا، لا تحتاج المرأة الواثقة بأنوثتها إلى إبراز نهديها وردفيها، أو تلوين شفتيها، وتكحيل عينيها، لتقول أنا امرأة.

لكن كيف مات، وهو شاب، يمتلئ بالطموح، ونبل الأخلاق، واستقامة الحلم المترفع عن الدوران فى دوائر الفساد، والالتصاق بأحد من الكبار، يساومه على موهبته وأحلامه؟ ليس هو وحده الذى يموت شابًا فى بلادنا. أمى ماتت وهى شابة، وأبى مات شابًا، وأخى مات شابًا، وكثير من أصدقائى وصديقاتى ماتوا شبابًا. أنا من ضمن زميلاتى فى المدرسة والجامعة التى بقيت حية. أغلبهن غادرن هذا العالم، فى الأربعين من العمر، أو الخمسين لمنْ يطول بها العمر.

تنشد الموت كثير من النساء، غير السعيدات فى حياتهن. من النادر أن تسعد المرأة فى ظل قانون يعطيها نصف رجل، أو ربع رجل، أو يمنح زوجها حق خيانتها علنًا وسرًا. من النادر أن تسعد امرأة أو رجل، لا يستطيع أى منهما التعبير عما يجول فى رأسه من أفكار تنشد العدل أو الحرية. أحيانًا أشعر بالخجل أو تأنيب الضمير لأن شابًا مثل «محمد فتُوح» قد مات فى بداية العمر، بينما أنا قد امتد بى العمر كثيرًا، أو لأن الشباب يموتون، وأنا مازلت أستمتع بالحياة. لا أعرف ما السر فى طول عمرى، رغم عشرات المآسى فى حياتى. ربما هو الحلم المستحيل الذى أنتظره قبل أن أموت؟ ربما هى سعادة الإبداع أو الكتابة، تمسح من الذاكرة كل التعاسات، لا أدرى لماذا أعيش وقد نشرت ثمانين كتابًا، وشباب يموتون دون نشر كتابهم الأول أو الثانى؟ ألهذا أدرك غياب العدل وغياب المعنى فى هذا الكون؟ ألهذا أكتب ولا أمل الكتابة بحثًا عن المعنى والهدف من الحياة؟ وكم من فلاسفة فى الشرق والغرب ماتوا قبل أن يكتشفوا هذا اللغز.

وكم من فلاسفة أعلنوا قبل موتهم أن الحياة ليس لها معنى أن نعيشها كما هى، الحياة بالمعنى أو اللامعنى أن نستمتع ونسعد بها، دون أن نعرف لماذا، وإن عرفنا لماذا، فالأمر سِيّان، فى النهاية نموت كما تموت كل الكائنات الحية. أما الكائنات الميتة فهى لا تموت لأن الموت لا يموت. ومنْ هى الكائنات الميتة؟ هى التى تعيش وتموت، دون أن يدرك العالم أنها عاشت وماتت، دون أن تفعل شيئًا يغير العالم، دون أن تترك أثرًا يشجع الناس على العدل أو الحرية أو الصدق أو الوفاء. هذه هى كلمات «محمد فتُوح»، الفيلسوف الذى عشق الفلسفة، ودرسها.

كان «محمد» يدهشنى بسبب ذلك الشغف الذى لا يفتر، وهو يفعل أصغر الأشياء. إذا قال لك: «صباح الخير»، فهو يقولها بشغف حقيقى، يتمنى لك الخير فعلًا، حتى لو لم يكن يعرفك. وفى عطائه للآخرين، كان مثالًا نادرًا على الكرم الذى لا ينتظر المقابل، أو حتى كلمة الشكر. وإذا وعد بشىء، فلابد أن يفى به، وإن كلفه الأمر حياته. أذكر حينما تحمس أحد المخرجين الشباب لإخراج مسرحيتى «إيزيس»، على خشبة المسرح، كانت هناك مشكلة وضع الموسيقى والألحان، فالوقت المتبقى كان قليلًا، ولم نرد الاستعانة بأحد من الكبار لضعف الميزانية. كان «محمد» خارج القاهرة، فى قريته الدراكسة، إحدى قرى الدقهلية، وعندما عرف بالأمر، قطع إجازته وجاء إلى المخرج، وتطوع لوضع الموسيقى والألحان، التى أنهاها بعد أسبوع متواصل مكثف من العمل. وجاءت إبداعاته الموسيقية مثارًا للانبهار من الجمهور، فقد كان «محمد» حينئذ فى سن الثلاثين، ولم يكن قد لحن إلا الأغانى العاطفية أو الوطنية.

لم يمت «محمد فتُوح» من شدة الشغف، أو شدة عطائه وكرمه، أو شدة موهبته، بل مات ضحية لـ«سُعار» الثراء، على حساب قتل حياة الآخرين، وسلبهم أحلامهم فى وضح النهار، على مرأى ومسمع من العالم. عالم لا يحرك ساكنًا إلا إذا كان المقتول أحد المشاهير، وإن كان فاسدًا، بهلوانًا، يتاجر بكل الأشياء. بعض الأطباء كان يمكنهم إنقاذه، لكن سوء حظه أوقعه فى أكبر عصابة لزراعة ونقل الأعضاء.

أعترف أننى كرهت الأطباء ومهنة الطب. فى ربيع عمرى كنت طبيبة أعالج مرضى السل الرئوى، بالمشرط أو بالأقراص أو بكليهما. المشرط الأول أو الأقراص، لم يكونا يقضيان على جرثومة الدرن، فهى لا تنهش إلا رئة الإنسان المحروم من الطعام، أو المرهق بالعمل الجسدى والنفسى. إن الطعام الجيد والراحة الجسمية والنفسية يحميان الإنسان من مرض الدرن. كلاهما يصنع مع السعادة المناعة الحامية لنا من جرثومة الدرن، فهى جرثومة عديمة الإنسانية، مثل العالم الرأسمالى الأبوى الذى نعيش فيه، تحكمها القوة وليس العدل. تَنْقَضّ الجرثومة على الضعفاء فقط، تخشى الأقوياء، لا تختلف عن غيرها من الكائنات، التى تتربى على نهش الضعفاء، خاصة فصيلة البشر، الرجال والنساء. أقسى الوحوش تتربى على الخوف والجشع. أكثر الحيوانات إنسانية هو الأسد، لا يأكل الأسد فريسته إلا إذا جاع. لكن الرأسمالى البليونير، المشبع بالجشع والخوف، لا يتردد فى نهش الأضعف، وإن كان مُصابًا بالتخمة.

سألت الدكتور «محمد فتوح»، قبل أن أغادر الوطن عام 2008، عن حالته الصحية، قال إن حالته تتحسن، وابتسم تلك الابتسامة التلقائية، التى يتميز بها أهل مصر من الريف، ابتسامة الإنسان البسيط السعيد، رغم قسوة الحياة، الإنسان الأَبِىّ عزيز النفس الذى لا يشكو، ولا يطلب شيئًا، وإن شارف على الموت. وأنا أودعه رأيت الدموع الحبيسة تحت الجفون، قال لى: خلى بالك من نفسك يا دكتورة، إحنا فى انتظارك، عودى إلينا. فى صوته لأول مرة، رنة حزن عميق دفين. هل دار فى خياله أنه اللقاء الأخير، أننى سأموت فى الغربة قبل أن يرانى مرة أخرى، أم أنه هو الذى سيموت فى الوطن قبل أن أعود؟

سألت نفسى بعد أن مات «محمد فتوح»، بعد أن ودعنى بثلاثة شهور، قبل الأوان، أكان يمكن لو قابل الطبيب، وليس العصبجى، أن يعيش ثلاثين سنة أخرى أو أربعين، يكتب فيها مؤلفاته، ويبدع موسيقاه؟ لو أن الدولة منحته ثمن العلاج، كما تفعل مع القلة المحظوظة، القلة من النخبة، أو ما حولها من كُتاب وصحفيين، الذين يسافر الواحد منهم، إن عطس، إلى لندن أو باريس، فما بالك إذا احتاج زرع كبد أو كلية تنقذه من الموت؟!

فى ولاية ميزورى أفتى أحد القسس، من الكتلة المسيحية الرأسمالية، بأن عملية زرع المخ تتعارض مع إرادة الله. تذكرت قولة الشيخ الشعراوى فى مصر، منذ أعوام: «زرع الكلية حرام لأنه يؤجل لقاء الإنسان بربه». وكم من نقاش دار حينئذ فى الصحف حول مقولة الشيخ الشعراوى. لكن الأغنياء لم يستمعوا إلى فتاوى الشيخ، ونجحوا فى تأجيل لقائهم بربهم عشرات السنين، بعد أن دفعوا ثمن الكلية الجديدة.

بعد رحيل د. محمد فتُوح، تجمع عدد من أصدقائه، ووضعوا ألبومه الأول، الذى لم يرَ النور فى حياته القصيرة، على «يوتيوب»، 8 أغنيات بصوته وألحانه. ما أروع هذا الوفاء، خاصة لمنْ لم يطلبه.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي