المقاطعة عبر التاريخ السياسي المغربي

الهيموت عبدالسلام
2018 / 7 / 22

المقاطعة الشعبية التي يخوضها الشعب المغربي منذ 20 أبريل 2018 لثلاثة منتوجات احتجاجاً ضد الغلاء وضد الاحتكار وضد ضرب القدرة الشرائية وضد زواج المال بالسلطة ،هذه المقاطعة ليست وليدة اليوم بل تعود بوادرها الأولى للعصر الوسيط المغربي وليس في الأمر مبالغة القول أن المغاربة استخدموا سلاح المقاطعة قبل الزعيم الهندي "المهاتما غاندي" الذي قاد أواخر القرن 19 أشهر عصيان مدني سلمي وأكبرمقاطعة لِسلع ومنتوجات الاحتلال البريطاني، وكذلك قبل قصة "بويكوت" التي تعود لعائلة "تشارلز بويكوت" مُحصل الضرائب الذي كان وكيلاً للأراضي التابعة للحكم البريطاني أثناء احتلالها لإيرلندا في القرن 19 : في أحد الأيام قام "بويكوت" بطرد بعض المستأجرين الإيرلنديين الذين تأخروا في دفع الضرائب فما كان من الايرلنديين إلا وقاطعوه ولم يعودوا يتعاملون معه لا بيعا ولا شراء ولا حتى كلاما وقد كانت لهذه المقاطعة السلمية تأثيرها الكبير على الشعوب الأوربية وعلى مستعمراتها .
وللأمانة العلمية اعتمدتُ على هذا المقال الكرونولوجي للمقاطعة في التاريخ السياسي المغربي على مقال أكاديمي للباحث "يونس مسعودي" المنشور بمجلة زمان التاريخية المغربية عدد 56/يونيو 2018.

* تعود الإرهاصات الأولى للمقاطعة في التاريخ المغربي للعصور الوسطى أي للقرن 16 في الفترة المرينية إذ كانت تقتصر على قرية أو قبيلة يقاطعون الصلاة في مسجد لعدم اتفاقهم مع خطبة المسجد ،أو مقاطعة بعض المدن لسلع اعتبروها محرمات مثل لحم الخنزير والكحول وفي نفس الفترة قاطع المغاربة التبغ التي كانت تأتي بها القوافل التجارية في عهد المنصور الذهبي.

* يرى "نبيل ملين" باحث متخصص في التاريخ السياسي المغربي أنه في منتصف القرن 19 عرف المغرب ما سمي بنظام الحماية الأولى –الحماية القنصلية- حيث كان هناك تجار من جنسيات مختلفة وضمنهم التجار المغاربة اليهود بمدينة فاس الذين كانوا يتمتعون بحماية خاصة أو ما يعرف بالمحميين أو "المزوبرين " الذين يحظون بالعديد من الامتيازات لترويج سلعهم الشيء الذي أثار حفيظة بعض الفقهاء فطالبوا بمقاطعة سلعهم وعدم التعامل معهم مما أدى إلى اغتيال أحد هؤلاء التجار بأحد مساجد مدينة فاس لكونه يحظى بمكانة خاصة لدى المستعمر الفرنسي،وقد أذكى حادث اغتيال هذا التاجر ليس فقط مقاطعة التجار المحميين ولكن كذلك مقاطعة البضائع الأجنبية التي تدخل الأسواق المغربية أو ما عرف ب "سلعة النصارى" وخاصة الشمع والسكر لاعتقادهم أنه مخلوط بدم الخنزير. وطبعا كانت لحملات المقاطعة دوافع دينية وسياسية حيث أن المجتمع المغربي قبل الحماية الفرنسية كان يتسم بالمحافظة والتدين وأنه كان للفقهاء و"العلماء" دور أساسي في التأطير والتأثير عبر الفتاوي داخل منابر المساجد وجامعة القرويين.

* في عهد السلطان الحسن الأول وبعدما ازداد الاحتكاك والتوتر مع القوى الأجنبية التي أغرقت الأسواق المغربية بالواردات معتمدة على وسائل متطورة في الدعاية بما في ذلك كتابة عبارة (رسول الله صلى الله عليه وسلم ) على المنتجات ضماناً لبيعها في أوساط المسلمين، و يذكرفي هذا الصدد "عمر أفا" مؤلف كتاب "التجارة المغربية في ق 19" أن السلطان استشار العلماء وفئات واسعة من المجتمع المغربي حول مقاطعة استهلاك السلع الأجنبية التي أجبرته على توسيع الصادرات المغربية وخاصة المواد الغذائية وقد تزايدت الضغوط على الحسن الأول لتصدير البهائم والأنعام والمواد الغذائية فاضطر السلطان إلى استصدار فتوى تجيز المقاطعة السلمية للموارد التجارية الأوربية التي تحمل عبارات دينية وقد كتب "الناصري" في "الاستقصا" وألف "بن ادريس الكتاني" كتاب شهيرا « الغيث المدرار ،والسر المعمار،فيما يتعلق بالنبي المختار،المكتوب على صناديق النار» حول هذه المقاطعة ،وقد أفضت هذه المناكفات والاحتكاكات على إجبار وإخضاع المخزن على توقيع سلسلة من المعاهدات التجارية في مرحلة 1856و1863 ،فُتحت بموجبها السوق المغربية على مصراعيها استيرادا وتصديرا .

* مع نهاية ق 19 الذي شهد فيه المغرب تكالب التدخل الأجنبي الاستعماري ولم يجد الفقهاء من وسيلة لمواجهة استغلال القوى الأجنبية لثرواث المغرب سوى تحريم الفقهاء لبعض المواد الغذائية الأوربية كالسكر والشاي والقهوة والدجاج الرومي والورق والصابون وعود الكبريت والتبغ والدخان(طابا) وكذلك الأدوية الطبية والثياب ،فحرم الفقهاء تصدير التمور لبلدان الكفار وأهل الذمة كما كانوا يسمونهم آنذاك ،وكذا السفر إليهم وكذا التعامل ب"الأطرة" (الشيك) و"السكرطة" (التأمين على السلع) واحتدت المقاطعة للسلع الفرنسية والإسبانية والإنجليزية وخاصة بعد هزيمة المغرب في حربي "إيسلي" و"تطوان" ، ويذكر العديد من الباحثين أن هذه المقاطعة ساهمت في انبعاث وعي وطني وسياسي لاحقين.

* في مرحلة الحركة الوطنية وقُبيل "استقلال" المغرب يذكُر الكاتب الأمريكي "جوناتان ويرزن " في مؤلفه "صناعة المغرب : التدخل الاستعماري وسياسة الهوية " أن الحركة الوطنية استعملت منذ الثلاثينات ضمن أساليب مقاومتها للاستعمار مقاطعةَ السلع الأجنبية ،وفي نهاية الأربعينات قادت هذه الحركة حملات لمقاطعة اليهود والأجانب وذلك بالتزامن مع زرع الكيان الصهيوني على أرض فلسطين والذي اعترفت به الأمم المتحدة 1949 ،ويورد "محمد شقير" أنه مع نفي محمد الخامس وتنصيب ابن عرفة سلطانا للمغرب فإن المغاربة قاطعوا المنتجات الفرنسية خاصة التبغ والحليب كما قاطعوا المساجد التي تتم فيها الصلاة والخطبة باسم ابن عرفة وقد امتدت المقاطعة حتى لِلذين كانوا يتعاملون مع السلطة الفرنسية ،فعملت المقاومة على تخوين واستحلال دم من يقترب من السلع الفرنسية ويرى المؤرخ "المعطي منجب " أنهم « قاطعوا السيجارة والشاي لضرب الاقتصاد الفرنسي ولكي تلقى المقاطعة قبولا واسعا من طرف المجتمع قاموا بتحريم تلك البضائع » ويضيف "منجب" «أن بعض الوطنيين من (عامة الناس) كانوا يستعملون شفرة حادة يجرحون بها كل من تبث تورطُه في اقتناء أو تدخين التبغ الأجنبي» أما المقاومة المسلحة يورد "محمد شقير" أنه «كانت تقوم بعمليات اغتيال لكل من تبث تورطه في اقتناء السلع الفرنسية ،أو الترويج لها،أو استهلاكها... »

*العصيان المدني بالريف 1958-1959 الذي جاء نتيجة للتدخل الدموي في حق ساكنة الريف قد دفع السكان لمقاطعة الأسواق الأسبوعية الرازحة تحت حكم المخزن ،وامتنعوا عن البيع فيها أو التسوق منها ،وقاطعوا كذلك الصلاة في بعض المساجد بل ومنهم من التجأ إلى الجبال احتجاجا أو هربا من القمع الذي عرفته ساكنة الريف في تلك الفترة كما أورد ذلك المؤرخ "نبيل ملين".

*بعد هزيمة 1967 سيعود المغاربة لمقاطعة التجار والأطباء والحرفيين اليهود وشركاتهم وقد لعبت الصحافة المغربية دورا كبيرا في تلك المقاطعة ،ورد في جريدة العلم التابعة لحزب الاستقلال « الشعب المغربي عازم على مقاطعة الصهاينة ،ولا يتردد في المشاركة في الحملة الوطنية ( ... ) تذكر جيدا يا أخي أن عددا من الأحذية والمشروبات والسجائر والأقمشة وقاعات السينما والمقاهي والصابون ودور الخياطة والحلويات ،موجودة هنا لتنزع منك دراهمك وتعطيها لأعداء الأمة» وقد كانت لهذه الحملة أثر في مغادرة العديد من اليهود لمغادرة البلاد،كما أنه لهذه كان لهذه الحملة خلفيات اقتصادية كذلك.

*استمرت حملات المقاطعة مرحلة التسعينات من القرن الماضي للمنتجات الأمريكية خاصة مطاعم ماكدونالز ومشروبات كوكا كولا ،هذه المقاطعة تزعمها مناهضو التطبيع تضامنا مع الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لاحتلال استيطاني عنصري بدعم استراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية

*خاض المغاربة منذ سبعينات القرن الماضي المقاطعة السياسية للانتخابات والدساتير بقيادة حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية مُجتمعَين أو بشكل منفرد وصولا إلى حركة 20 فبراير 2011 حيث دعت بعض الهيئات السياسية الراديكالية وهيآت مدنية وحقوقية لمقاطعة الاستفتاء على دستور 2011 وعلى جميع المحطات الانتخابية لحدود2016 .

*المقاطعات التي عرفها المغرب عبر تاريخه كانت تدعو لها نخبة من الفقهاء أو الحركة الوطنية أو المقاومة المسلحة أو هيئات سياسية أو جمعيات لمناهضة التطبيع ،تختلف عن المقاطعة الشعبية التي انطلقت في 20 أبريل 2018 لثلاث منتوجات التي هي مقاطعة شعبية عارمة لا قيادة لها ولا ناطقا رسميا وأن فضاءها هو منتديات التواصل الاجتماعي .

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي