|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
صباح قدوري
2016 / 6 / 30
د. حسن عبد الله بدر* و د. صباح قدوري**: لماذا لا يؤدي الإنفاق الاستثماري دوره في تطوير وتحويل الاقتصاد العراقي؟
في أدب التنمية، يعتبر الإنفاق الاستثماري عماد التنمية والتحول الاقتصادي وذلك لأن من خلاله يتم بناء الطاقات الانتاجية أو توسيعها لاقتصاد البلاد وبالتالي إنتاج السلع والخدمات اللازمة لتلبية الاحتياجات المختلفة للسكان من غذاء وملبس ومسكن، وكذلك مختلف أنواع الخدمات سواء تلك المرتبطة بشكل مباشر بعملية الانتاج كالنقل والاتصالات وتجهيز الماء والكهرباء والخدمات التجارية والمالية أو الخدمات العامة كالتعليم والصحة والإدارة.
وعلى سبيل التوثيق النظري لتلك العلاقة بين الإنفاق الاستثماري والنمو الاقتصادي، يتذكر الاقتصاديون العديد من نظريات أو نماذج التنمية، ومن أبرزها وأكثرها استعمالاً نموذج هارود-دومار الذي يَعتبر النموَ الاقتصادي دالةً لنسبة الاستثمار من الدخل القومي وفعالية الاستثمارات المتحققة، ضمن متغيرات اقتصادية هامة أخرى مفترضة.
محفزات الاستثمار
يتمتع العراق بمجموعة من الموارد الاقتصادية تشجع على المباشرة وزيادة الإنفاق الاستثماري، أي الإنفاق على السلع الإنتاجية من مكائن ومعدات، وطرق وموانئ ومطارات، وكهرباء وماء ومشاريع ري وسدود، ومباني سكنية وغير سكنية.
ففي جانب العرض، ثمة ثروة معدنية وفيرة من النفط والكبريت. وهناك الأراضي الصالحة للزراعة، والمياه، والمناخ المتنوع والضروري لمختلف المحصولات. كما أن هناك قوة عمل متنوعة وقابلة للمزيد من التطور عند اللزوم. وأخيراً، هناك الموارد الوفيرة الضرورية لعملية التمويل. وفي جانب الطلب، ثمة ظروف مناسبة من شأنها توفير السوق الكافية للاستثمارات. وتتمثل هذه الظروف بحجم سكان العراق، الكبير نسبياً، مع توزيعه بين الريف والحضر والأعمار المختلفة، والقوة الشرائية التي تمتلكها فئات كثيرة من السكان.
وهكذا يقدم العراق فرصاً ممتازة للاستثمار، بما فيه الاستثمار الأجنبي، وذلك لما فيه من ثروة نفطية ضخمة، وحجم سكاني كبير، واحتياجات واسعة للاستثمار في البناء التحتي، فضلاً عن الزراعة والصناعة التحويلية. وهذا هو تفسير اهتمام المستثمرين الأجانب بالعراق رغم مشكلاته السياسية والأمنية.1
الاستثمار والنمو الاقتصادي حتى أواخر السبعينات
شرعَ العراق، منذ بداية خمسينات القرن الماضي بعد الزيادة الملوسة في عوائد البلاد من إنتاج وتصدير النفط، بتخصيص نسبة مقبولة (أكثر من 20%) من دخله القومي للاستثمار ضمن سياسات اقتصادية تهدف، بشكل تدريجي، إلى تحقيق زيادة ملموسة في دخل الفرد في إطار تصور عن اقتصاد متنوع تؤدي فيه الزراعة والصناعة التحويلية وفروع الخدمات الضرورية لهما الدور الاساسي في الاقتصاد.
وبفضل تلك الاستثمارات، وسياسات اقتصادية أخرى ضمن دور واسع ومتزايد للدولة حتى نهاية السبعينات، تم إنجاز قدر من التنمية ساعدَ مورد النفط على تحقيقه. فكان العراق، عام 1975، ضمن فئة البلدان النامية متوسطة الدخل، ويُقارن مع كوريا الجنوبية واليونان والبرتغال؛ وتم إنجاز طائفة واسعة من مشاريع التصنيع، مع تقدم ملموس في إنتاج الكهرباء، والتحرك باتجاه إزالة الاختناقات في البناء التحتي والخدمات. كما أن مستويات التعليم والصحة كانت تتناسب مع إمكاناته الاقتصادية.2 بيد أن العراق حينذاك كان يحمل بذور خرابه في بنائه السياسي حيث بقيت السلطة محوراً للتوتر الدائم والرعب ونوبات سفك الدماء، في أجواء من النزاع الإقليمي الظاهر والمستتر وطموحات الهيمنة وتنافس الإيديولوجيات.3
وقد تبينَ، رغم ذلك الإنجاز، أن الطاقات الانتاجية الزراعية والصناعية التي تم بناؤها أو توسيعها كانت محدودة وحتى مشكوكاً في إمكانية استمرارها. فحين توقفَ تصدير النفط أثناء سنوات الحصار، وبالتالي توقفْ الدعم الحكومي وانقطاع الاستيراد، ومن ثم خلو السوق المحلية من السلع الأجنبية المنافِسة، اختفت الكثير من المنشآت الكبيرة، مع أن فرصة تاريخية كانت سانحة أمامها للنهوض بالإنتاج وزيادته وتعويض المستوردات وتنويع الصادرات خارج النفط الخام. بل حتى قبل أن يبدأ الحصار ويتوقف تصدير النفط، بقي الاقتصاد العراقي يعتمد على قطاع النفط في نشاطاته الرئيسية من إنتاج وتصدير واستيراد واستهلاك وكذلك في ميزانيته العامة.
الاستثمار والنمو الاقتصادي بعد عام 2003
وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، تمَّ الإعلان عن قيام عملية سياسية تتضمن إجازة العمل الحزبي، وإجراء الانتخابات، وتشكيل البرلمان، وإطلاق حرية الصحافة والاعلام؛ كما تواصلتْ الأعمال المسلحة بأشكال مختلفة بلغتْ ذروتها عام 2014 باحتلال أجزاء واسعة من العراق من قبل الدولة الاسلامية (داعش) وما رافقَ ذلك من فقدان للأمن وإنفاق واسع على أجهزة الجيش والشرطة والأمن ومواجهة الارهاب.
وقد صاحبَ ذلك تغيرٌ كبير في الوضع الاقتصادي من بين مؤشراته الرئيسة: الإعلان عن التوجه نحو اقتصاد السوق وفتح الباب على مصراعيه أمام الاستيراد وحرية التحويل الخارجي للعملات الأجنبية؛ إهمال الدولة لعملية التصنيع بحجة أن الاستثمار الانتاجي، في الزراعة والصناعة التحويلية، أصبح متروكاً للقطاع الخاص والاستثمار الأجنبي؛ والزيادة الكبيرة في الموارد المالية للبلاد من إنتاج وتصدير النفط؛ إلى جانب توسع الأجهزة الإدارية للحكومة، ومؤسسات الجيش والشرطة والأمن، وذلك لرغبة الأحزاب الحاكمة في الكسب السياسي من خلال إغراق تلك الأجهزة بمناصريها، ولكن أيضاً بسبب تفاقم البطالة لعجز القطاعات الانتاجية عن استيعاب القوى العاملة؛ والتوقف الفعلي للكثير جداً من المنشآت الانتاجية الحكومية.
وبقدر تعلق الأمر بالإنفاق الاستثماري وتأثيره على الناتج في هذه الفترة، فإن نسبة معقولة ويُعتدُّ بها من الناتج المحلي الاجمالي كانت تُخصص لصالح ذلك الإنفاق، مع أن الجزء الأكبر من الناتج كان يتجه طبعاً نحو الاستهلاك. فرغم بعض التباين في مصادر البيانات4، إلاّ أن نسبة لا تقل عن 20% من الناتج المحلي الاجمالي كانت تذهب للإنفاق الاستثماري في فترة ما بعد 2003.
وفي المقابل، لم يكن هناك انعكاس لهذا الإنفاق على صعيد بناء وتوسيع الطاقات الانتاجية للبلاد على أساس أن الهدف من الإنفاق الاستثماري هو بناء وتوسيع تلك الطاقات بقصد إنتاج المزيد من السلع والخدمات، وخصوصاً مع اتساع الطلب المحلي في ظل النمو السكاني العالي في العراق، وزيادة دخول نسبة ملموسة من العراقيين، والحرمان الحقيقي والطويل لأكثريتهم أثناء فترة الحصار قبل عام 2003، وعوامل أخرى هامة5. ويشهد على ذلك ما يستورده العراق من مختلف السلع الاستهلاكية والإنتاجية بسبب عدم قدرة القطاعات الإنتاجية المحلية على سد الحاجة من تلك السلع. كما تشهد عليه أيضاً النسبة العالية من البطالة في قوة العمل لأن القطاعات الإنتاجية لم تتوسع بحيث تستوعب القوى العاملة. فكما أن تشغيل قوة العمل وزيادته باستمرار مظهر ونتيجة لعملية التنمية واستمرارها، فإن البطالة وزيادتها هي الوجه الآخر لتوقف عملية التنمية أو ضعفها.
فما هو تفسير ذلك، أي لماذا لم يكن للإنفاق الاستثماري مردود ملموس على صعيد الناتج؟
أولاً، إن نسبة هامة مما كان يُعلن عن تنفيذه من التخصيصات الاستثمارية لم يكن قد تم تنفيذه بالفعل أو أن تنفيذه لم يكتمل بحيث يدخل المشروع المعني في حقل الانتاج ويبدأ بسد الحاجة من السلعة التي ينتجها. ويُشار، في دوائر الدولة، إلى مثل هذه الاستثمارات بالمشروعات المتلكئة. إذ تبين مصادر عديدة في وزارة التخطيط، واللجنة المالية البرلمانية، واقتصاديون كثر، أن هناك مشروعات لا يقل عددها عن 3,000 تم إنفاق أكثر من 284 مليار دولار عليها دون أن تكتمل وتباشر في عملية الإنتاج. ومن زاوية أثر هذه الاستثمارات في عملية الانتاج، فإن عدم اكتمال التنفيذ لا يجعل لها أي أثر أو وكأنها لم تُنفذ قط.
إن تدقيق الأمر يكشف عما هو أكثر من ذلك بشأن المصير الحقيقي لتلك المليارات من الأموال. فلأن الإنفاق الاستثماري هو أحد أهم قنوات التصرف بالموارد المالية للدولة، فإن الأموال المنفقة تذهب، في جزء منها، للموظفين المسؤولين عن تنفيذ ومتابعة المشروعات الاستثمارية، وأيضاً كتكاليف للمقاولين المكلفين ببنائها ونصبها، وللمصارف التي قد تلعب دورها في تحويل الأموال إلى الخارج لصالح أولئك الموظفين والمقاولين. إن فساد الأجهزة الإدارية المعنية هو نفسه أيضاً يقف وراء تضخيم تكاليف المشروعات الاستثمارية بأكثر مما تستحق بالفعل بحجج من بينها ارتفاع درجة المخاطرة في البلاد. إن الفارق بين التكلفة الحقيقية والتكلفة الفعلية المدفوعة، الذي يؤول إلى الجهات الثلاثة المذكورة أعلاه نفسها، لا يشكل زيادة حقيقية في الانفاق الاستثماري وبالتالي لا أثر له على صعيد زيادة السلع المنتجة.
وثمة أمرٌ لا ينبغي نسيانه يميّز تنفيذ التخصيصات الاستثمارية وله صلة مباشرة بتأثيرها المفترض في بناء الطاقات الإنتاجية. فما يُخصص للاستثمار في الموازنات العامة كان يُستخدم على الدوام لامتصاص التقلبات في إيرادات الحكومة، وبخاصة إيراداتها من تصدير النفط6. فحين تتقلص الإيرادات، كما حدثَ عام 2008 حين هبطت أسعار النفط، وكما يحدث الآن منذ نهاية عام 2014 مع الهبوط الجديد والكبير في أسعار النفط، كان يجري إقتطاع التخصيصات الاستثمارية باسم "المناقلة بين النفقات"، في حين أن النفقات التشغيلية للحكومة لا تتأثر كثيراً، بما في ذلك نفقات غير ضرورية أبداً ونفقات أخرى غريبة مثل مرتبات "الفضائيين"، كما يُسَمُّون.
والعامل الثاني الذي يمكنه تفسير ضآلة تأثير الإنفاق الاستثماري على بناء الطاقات الإنتاجية هو بنية الاستثمارات.
إن أبرز ما يميِّز هذه البنية هو غياب الاستثمار الإنتاجي في الزراعة والصناعة التحويلية. ومن المعلوم أن التوجه الحكومي، بعد عام 2003، كان يتمثل بترك أو حصر ذلك الاستثمار بالقطاع الخاص أو الاستثمار الأجنبي المباشر. ولكن من الناحية العملية لم يتجه استثمار القطاع الخاص نحو الفروع الإنتاجية من الاقتصاد. فالقطاع الخاص، بالرغم من ترحيبه بهكذا توجه من الدولة لدعمه واعتبار أن التنمية تتحقق على يد الاستثمار الخاص في الزراعة والصناعة التحويلية، إنما يهتدي، كما هو شأنه على الدوام طبعاً، بمعيار الربح في قراراته الاستثمارية. أي أنه يهتدي بالحصيلة النهائية لما تكون عليه معادلة الأسعار التي يبيع بها منتوجاته الزراعية والصناعية، من جهة، وما يتحمله من تكاليف عند إنتاج تلك المنتوجات، من جهة أخرى، مع ما يمكن أن يحصل عليه أثناء ذلك من دعم من الدولة في صورة أثمان أقل للطاقة والكهرباء التي يتجهز بها من المنشآت الحكومية؛ وإعانات عند الإنتاج أو التصدير؛ وقروض من المصارف التي تهيمن الحكومة عليها؛ وأسعار صرف للعملة العراقية تجعل لمنتوجاته ميزة تنافسية في السوق العراقية، على الأقل؛ ومعاملة ضريبية ملائمة لرؤوس أمواله وأرباحه. وكل ذلك على نحو يجعل تكاليف الإنتاج لديه أقل ما يمكن نسبةً إلى:
أولاً، الأسعار التي يمكن أن يبيع بها منتوجاته.
ثانياً، معدلات الأرباح التي يمكنه تحقيقها حين يُوظف أمواله في مجالات أخرى غير الزراعة والصناعة التحويلية.
وهنا لنلاحظ ما يلي:
1) إن السياسات الاقتصادية العامة للحكومة كانت وما تزال تتجه نحو تمكين القطاع الخاص من أشكال الدعم المذكورة، وبخاصة في صورة طاقة رخيصة، وإعانة ضريبية، وتقديم قروض: "لا شك أن القطاع الخاص يتلقى إعانة من المال العام مثل الطاقة الرخيصة بتكلفة 9 مليار دولار سنوياً، والتساهل الضريبي الذي يتخذ شكل الإعفاء والتهرب المسكوت عنه والرسوم الواطئة والتي أصبحت رمزية عموماً، والقروض الميسرة"7. بل أن حال المعاملة الضريبية تنطوي حتى على أكثر من التساهل. إذ أن ضعف الأجهزة الإدارية، واستشراء الفساد في الكثير منها، يُمكِّنُ من التهرب الضريبي على نحو يُؤِّمن الفرص للمزيد من الاسترباح، مع أن ذلك الضعف والفساد يمارسان دوراً تخريبياً خطيراً في الاقتصاد العراقي ككل.
2) ولكن أسعار صرف العملات الأجنبية (الدولار الأمريكي) والسياسة التجارية للحكومة لهما دور يعمل بالاتجاه المعاكس. إذ أن أسعار الصرف تم تحديدها على مستوى ليس فقط لا يتيح للمنتوجات الصناعية المحلية أي ميزة تنافسية، بل يجعل منها هدفاً سهلاً أمام السلع الأجنبية (ناهيك عن المحاذير الصحية والأمنية على البلاد)، مع أن تلك الأسعار تساعد على إبقاء التضخم ضمن الحدود المرغوبة حكومياً من خلال فيض السلع المستوردة.
وتؤدي إلى النتيجة نفسها سياسةُ الاستيراد، فضلاً عن أنها كانت وما تزال مرتعاً للفساد المالي.
وهكذا فإن المحصلة العامة التي يقود إليها هذا التحليل أن فرص الاستثمار الخاص المربح في القطاعات الإنتاجية غير متاحة على النحو الذي يشجع التنمية الاقتصادية، على الرغم من وجود أشكال دعم مختلفة8، والإعلان والتوجه الحكومي المغاير. فالإعلان الحكومي بأن الاستثمار الإنتاجي متروك للقطاع الخاص لا يعني بحد ذاته أن القطاع الخاص جاهز لاغتنام الفرصة ما لم يتأكد من الجدوى الاقتصادية لذلك الاستثمار، أي ما لم تكن عوامل معادلة الأسعار والتكاليف على نحو يتيح للاستثمار الخاص تحقيق الأرباح التي يريد. والجدير بالملاحظة أن التمويل لا يشكل قيداً على الاستثمار الخاص ذلك لأن مجموع ودائع القطاع الخاص لدى القطاع المصرفي بلغت، عام 2013، 24.45 ترليون دينار9، كما كان مجموع ودائع القطاع الخاص 21.1 ترليون دينار في حين أن مجموع الائتمان المقدَّم كان 14.6 عام 201210، أي أن الودائع تزيد على الائتمان بمقدار النصف تقريباً.
وإزاء افتقاد الاستثمار الانتاجي الخاص للجدوى الاقتصادية، أي، باختصار، ضعف العائد والمخاطرة، نشهد توجه رؤوس الأموال الخاصة نحو مجالات ذات عائد أكثر، وبسهولة، ومخاطرة أقل. أحد هذه المجالات هو تسريب الأموال إلى خارج العراق من خلال مزادات العملة الأجنبية. وبهذا الخصوص، ثمة تقديرات، ومن بينها من داخل اللجنة المالية في البرلمان العراقي، تشير إلى أن 57% من مزادات العملة عبارة عن فساد مالي.11 ويمثل شراء عقارات الدولة، وبخاصة في مناطق معينة من بغداد والمدن الكبيرة الأخرى، مجالاً آخر لاستيعاب الأموال الخاصة الباحثة عن عائد أكثر وأسهل وأقل مخاطرة، وفقاً للتقديرات المذكورة نفسها. وأخيراً، فإن القطاع الخاص يستثمر جزءاً من أمواله من خلال إيداعها لدى المصارف العراقية، وبخاصة الحكومية منها، فضلاً عن أن تأسيس المصارف الخاصة نفسها، وهي كثيرة نسبياً، وما يتطلبه ذلك من رؤوس أموال، هي من أشكال التصرف بما لدى القطاع الخاص من أموال.
الخلاصة
لا خلاف على أن الموارد والإمكانات الواسعة التي يمتلكها القطاع الخاص (رؤوس أموال، خبرات تنظيمية، وصلات خارجية) لابد من توظيفها في خدمة التنمية الاقتصادية لبناء اقتصادٍ متنوع تساهم قطاعاته الإنتاجية في خلق الناتج وتشغيل القوى العاملة والموارد الأخرى المتاحة، والاعتماد على ذلك في تمويل النشاطات الرئيسة من استهلاك واستثمار واستيراد وتمويل ميزانية البلاد.
بيد أن ذلك التوظيف لا يتحقق فقط بمجرد أن تعلن الدولة أنها ستتبنى، من بعد عام 2003، نهج قوى السوق وخصخصة منشآت حكومية و"تحرير" الاستيراد والتحويل الخارجي والتعاطي مع المنظمات والأسواق الدولية وكأن كل ذلك يتحقق من تلقاء نفسه، دون دور عسير وكبير للدولة نفسها، ودون مراعاة للقوانين الاقتصادية. فالقطاع الخاص بالذات لا يعمل، منطقياً وفعلياً، بعيداً عن مبدأ تحقيق أقصى عائد من استثمار رؤوس أمواله. وإذا سلّمنا بأن التنمية لا معنى لها وأن زوال الطابع الريعي للاقتصاد العراقي مجرد حلم من دون نهوض القطاعات الإنتاجية والبناء التحتي الضروري لها (كهرباء، طرق وسدود ومشاريع ارواء وموانئ .. إلخ)، فهذه القطاعات هي أبعد وآخر ما يرد ببال القطاع الخاص ما لم تقم الدولة نفسها بدورها التنموي العسير والكبير وذلك عبر ما لديها من أدوات، كأسعار مُدخلات وضريبة وإعانة وقروض وتعرفة جمركية وأسعار صرف، وكذلك ضمان سوق وأسعار مُجزية للمنتجات الزراعية للتوصل إلى تكاليف إنتاج تتيح عائداً معقولاً للقطاع الخاص يشجعه على ارتياد تلك القطاعات، وليس بعثرة أمواله بعيداً عنها. فدور الدولة لا يتراجع، بل يتسع ويتعقد، حين يكون الهدف خلق اقتصاد تملك منشآته المقومات الذاتية لاستمرارها خلال فترة معقولة من الزمن. وهذا ما بينته تجارب الدول التي نجحت في التحول وصارت مضرب مثل في حقل تجارب التنمية.
الهوامش
1 UNCTAD, World Investment Report 2014, p. 58.
د. سمير حسن ليلو: "مشاكل الزراعة في العراق"، منشور بتاريخ 1/1/2012، في موقع أخبار الأعمال في العراق:
Iraq Business News (www.iraq-businessnews.com), p. 1-2.
2 د. أحمد ابريهي علي"الاقتصاد العراقي وآفاق المستقبل القريب"، منشور بتاريخ 7/7/ 2011 في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
Iraqi Economists Network (www.iraqieconomists.net), p. 1
3 المصدر السابق، ص 1.
4 يمكن الاستدلال بطريقة أخرى على ما تم تخصيصه للإنفاق الاستثماري. فاللجنة المالية البرلمانية تقدر مجموع مدخولات الحكومة منذ 2003 (مدخولاتها من تصدير النفط، والإيرادات الأخرى كالضرائب والكمارك، والصندوق العراقي للتنمية/أول المدة، وكذلك الهبات والقروض) ب 855 بليون دولار. ونظراً لوجود بيانات موثقة رسمياً عن مشروعات تم إنفاق 284 بليون دولار عليها دون أن تكتمل، فمعنى ذلك أن هذه الاستثمارات وحدها تشكل أكثر 30% مما كان بحوزة الحكومة من أموال، علماً بأن ذلك لا يشمل الإنفاق الاستثماري في قطاع النفط وفي إقليم كردستان. وهذه النسبة تعتبر عالية حتى بمقاييس الدول الغربية المتطورة اقتصادياً.
5 د. صباح قدوري و د. حسن عبد الله بدر "بعض التصورات حول الإصلاح الاقتصادي في إقليم كردستان العراق" منشور بتاريخ 24/ 8/ 2015 في موقع شبكة الاقتصاديين العراقيين:
Iraqi Economists Network (www.iraqieconomists.net), p. 3 and p. 9.
6 د. أحمد ابريهي علي، مصدر سابق، ص 4
7 د. أحمد ابريهي علي" التنمية والتمويل في العراق عام 2014 وآفاق المستقبل"، منشور بتاريخ 14/7/ 2014 في موقع:
Iraqi Economists Network (www.iraqieconomists.net), p. 8
8 "إن فاعلية أشكال الإعانات ضعيفة لأنها شاملة ولا تنعكس في تعديل الأسعار النسبية وفروقات العائد كي تحرِّك الاستثمار أو تُعيد تخصيصه"، المصدر السابق، ص 8.
9 موفق حسن محمود "القطاع المصرفي العراقي وكيفية النهوض به"، منشور بتاريخ 28/1/ 2016 في موقع:
Iraqi Economists Network (www.iraqieconomists.net), p.5, and table 2, p. 21
10 د. أحمد ابريهي علي"التنمية والتمويل في العراق"، مصدر سابق، ص 15-16.
11 تصريحات متكررة للدكتورة ماجدة التميمي، من اللجنة المالية البرلمانية. وهناك مصادر أخرى تشير إلى الاتجاه نفسه.
* أستاذ جامعي وباحث اقتصادي، ** أستاذ جامعي وباحث اقتصادي – محاسبة
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |