جدل الهوية والانتماء في الرواية العراقية بعد ٢٠٠٣: دراسة في تحولات السرد والقيم

علي حسين يوسف
2025 / 3 / 25

مثّلت الرواية العراقية بعد ٢٠٠٣ فضاءً مزدحما بالأسئلة الكبرى حول الهوية والانتماء، إذ وجدت نفسها في مواجهة مباشرة مع واقع متصدّع، تآكلت فيه الثوابت وانفتحت أبواب الاحتمالات كلها على مصراعيها. لم يكن التحول الذي شهده العراق مجرد تغيير سياسي، بل كان زلزالا أصاب البنية العميقة للمجتمع، مخلخلا علاقات الأفراد بالجماعات، والجماعات ببعضها، والكلّ بالمكان والتاريخ. تحولت الرواية إلى مرآة لهذا التشظي، حيث لم تعد الهوية كيانا متماسكا، بل أصبحت ميدانا مفتوحا للتفكيك وإعادة الصياغة، محمولةً على السرد، ومنعكسة في شخصياته ومصائرها وأصواتها المتعددة.
أصبح سؤال الانتماء أكثر تعقيدا من أي وقت مضى، فلم يعد محصورا في الثنائية التقليدية بين الوطني والمنفى، أو بين الذات والجماعة، بل تفكك إلى دوائر متداخلة، تاهت فيها الحدود بين الانتماء الطائفي، والقومي، والسياسي، والمكاني، وحتى الوجودي. تحضر في النصوص الروائية شخوصٌ تبحث عن معنى ثابت لهويتها، لكنها تصطدم بعالم متغير، حيث تتحول الهوية إلى عبء ثقيل أو إلى لعنة لا يمكن الفكاك منها. تتجلى هذه الأزمة في شخصيات تعيش اغترابًا داخل وطنها، أو في تلك التي تجد في الهروب حلًّا، سواء كان الهروب نحو المنافي الجغرافية أو نحو ذاكرة مبتورة تحاول أن تعيد تركيب الماضي كتعويض عن حاضر فقد ملامحه.
لقد شهدت الرواية العراقية بعد ٢٠٠٣ تحولات سردية تعكس هذا التوتر الهوياتي، إذ لم يعد السرد خطيّا، بل أصبح متشظيا، تتداخل فيه الأزمنة، وتتناوب فيه الأصوات، ويصبح الراوي ذاته غير موثوق، كأن النص ذاته يعترف بأن الحقيقة لم تعد واضحة، وأن أي سردٍ للواقع هو في النهاية إعادة تشكيل ذاتية لتاريخ مثقل بالالتباس. فلم تعد الرواية تقدم يقينا، بل صارت تمارس الشك في كل شيء، حتى في ذاتها، فتجد شخصيات تتردد بين ماضٍ يعاد بناؤه وفق الحنين أو وفق الصدمة، وحاضر يتسرب من بين الأيدي، ومستقبل يبدو كهاوية بلا ملامح.
لم يقتصر الأمر على التحولات في بنية السرد، بل انعكس أيضا على القيم التي تتبناها الرواية، حيث برزت محاور جديدة للصراع، لم تعد تنحصر في ثنائيات الخير والشر، أو البطولة والخيانة، بل امتدت إلى مساءلة القيم ذاتها التي شكّلت وعي العراقي لعقود. تجد الشخصيات نفسها أمام أزمة أخلاقية، إذ تنهار القيم القديمة، لكن دون أن تحل محلها منظومة جديدة مستقرة. يتردد الروائيون بين الحنين إلى زمن ماضٍ كان أكثر وضوحًا في معاييره، وبين الانفتاح على واقع جديد لم تتشكل قيمه بعد، مما يجعل الرواية نفسها في حالة تعليق، لا هي قادرة على الحسم، ولا على البقاء محايدة أمام هذا التحول الجارف.
المدينة العراقية بدورها أصبحت بعد ٢٠٠٣ فضاءً رمزيا لهذا التشظي، حيث فقدت بغداد، والبصرة، والموصل، والنجف،وكربلاء ملامحها المألوفة، وصارت تظهر في النصوص الروائية أماكن بلا ذاكرة، أو فضاءات تتآكلها الحرب والخراب والتهجير،والتحوير . لم تعد المدينة موطنا ثابتا، بل تحولت إلى متاهة، يجد فيها الأفراد أنفسهم عالقين بين جدران من الخوف والريبة، وكأن الانتماء ذاته أصبح ضربًا من الاستحالة. تحضر المدينة في الرواية ككائن جريح، يُعاد بناؤها في النصوص عبر ذاكرات مجتزأة، تستعيد بعضا من مجدها الماضي، لكنها تعجز عن جعلها مكانًا آمنًا للحياة.
امتد أثر هذا التحول إلى العلاقة بين السرد والتاريخ، إذ لم تعد الرواية العراقية تقف موقف الراوي العارف، بل أصبحت نصوصها مشبعة بأسئلة التاريخ الذي لم يعد ملكًا للرواية وحدها، بل صار ساحة لصراعات متعددة، حيث كل طرف يسرد حكايته الخاصة، ويروي تاريخه كما يشاء. انعكس هذا في كثرة الروايات التي تتلاعب بالوثيقة، وتوظف التقارير الرسمية، والشهادات الشخصية، بل وحتى الخرافات الشعبية، في محاولة لتفكيك السلطة التقليدية للسرد التاريخي، وإعادة تشكيل الماضي وفق زوايا نظر مختلفة.
ونتيجة لما تقدم أصبح السرد العراقي بعد ٢٠٠٣ أقرب إلى عملية تنقيب، حيث يحفر الروائي في طبقات الذاكرة، ويواجه الأسئلة التي كان محظورا طرحها، أو التي لم يكن أحد يجرؤ على مساءلتها حيث لم تعد الرواية تبحث عن البطولة، بل صارت تمعن في كشف هشاشة الأفراد أمام العنف والاقتلاع وفقدان اليقين. لم يعد هناك (بطل روائي) بالمعنى التقليدي، بل صارت الشخصيات تعاني من التشظي، وأصبح البطل في كثير من الأحيان مجرد ضحية تبحث عن معنى لحياتها داخل دوامة الأحداث.
انعكس هذا التشظي على اللغة الروائية ذاتها، إذ لم يعد السرد يعتمد على لغة واحدة متماسكة، بل صار يدمج بين مستويات لغوية مختلفة، مستعينا أحيانا باللهجات المحلية، وأحيانا بالمزج بين لغة شعرية وأخرى تقريرية جافة، وكأن النص ذاته صار يعكس اضطراب الواقع الذي يصفه. لم تعد اللغة وسيلةً لتوضيح الأمور، بل أصبحت في بعض النصوص وسيلة لزيادة الغموض، حيث تتداخل الأصوات، وتتشظى الجمل، وتضيع الحدود بين الحقيقة والتخييل.
لم يكن هذا التحول في الرواية العراقية انعكاسا للأحداث فقط، بل كان أيضا محاولة لخلق شكل جديد للسرد يتناسب مع واقع جديد لم تعد فيه الهويات واضحة، ولم يعد فيه الانتماء أمرًا بديهيًا. لقد صار الروائي العراقي أقرب إلى شاهد مرتبك، لا يستطيع أن يقدم إجابة حاسمة، لكنه قادر على التقاط تفاصيل الانهيار، وعلى تسجيل صوت الأفراد الذين فقدوا إحساسهم بالأمان، والذين يحاولون—عبر السرد—إعادة بناء ذواتهم وسط عالم لم يعد يشبههم. ولم تعد الرواية تبحث عن حقيقة واحدة، بل صارت تطرح احتمالات متعددة، مما جعلها أكثر قدرة على التقاط روح المرحلة، حيث كل شيء مفتوح على احتمالاته القصوى، وحيث الماضي لم يعد مرجعا مستقرا، والحاضر يبدو فخا زمنيا، وصار يلوح للمستقبل ألف باب بلا مفاتيح.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي