![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
الشهبي أحمد
2025 / 3 / 19
في زوايا الذاكرة المغربية، تُختزن لحظاتٌ لا تُمحى، كجرحٍ نازفٍ يُذكِّرُنا أن التاريخ ليس مجرد سرديةٍ تُروى، بل جسدٌ يحمل ندوبَ من سبقونا. أحداث 23 مارس 1965 في الدار البيضاء ليست مجرد "حادثة" عابرة في كتب التاريخ، بل انعكاسٌ لصراعٍ أبدي بين سلطةٍ تحاول ترويض المستقبل، وشبابٍ يرفضون أن يُسلَبَ منهم حقُّهم في صنعه.
كان القرار الحكومي بترحيل التلاميذ من المدارس – بحجة أعمارهم – أشبه بإلقاء حجرٍ في ماءٍ راكد. ففي مجتمعٍ يعاني الفقرَ وغيابَ العدالة الاجتماعية، يصبح التعليمُ آخرَ حصنٍ يلوذ به الفقراءُ للحلم بمستقبلٍ أفضل. لكن السلطة، بدل أن تمدَّ جسراً للأمل، اختارت أن تُحوِّل المدرسةَ إلى ساحةِ إقصاء. لم يكن الأمر مجرد "إجراء إداري"، بل ضربةٌ لقلبِ أحلام جيلٍ بكامله.
لم تكن المظاهرات التي انطلقت في شوارع البيضاء مجرد رد فعلٍ عفوي. فالشبابُ الذين خرجوا – وأعمارُ بعضهم لم تتجاوز العاشرة – كانوا يدركون، ولو بغريزتهم الطفولية، أنهم يُحاربون مصيراً جاهزاً: مستقبلٌ بلا تعليم يعني بالضرورة انضماماً إلى جيش العاطلين، أو عمالةً رخيصةً في مصانع الاستغلال. لكن المفارقة أن هؤلاء الصغار حوّلوا هشاشةَ عمرهم إلى قوة: فبراءةُ وجوههم كانت أكبرَ تحدي للرصاص.
لم تكن الدماء التي سالت في الشوارع سوى نتيجةٍ حتميةٍ لمنطق السلطة التي ترى في أي احتجاجٍ "تمرداً". فاليدُ التي تمسكُ بقرار فصل التلميذ من المدرسة هي نفسها التي تحملُ رشاشاً لقمع المتظاهرين. لم يفهم النظام أن البنادق لا تُخرس الأحلام، بل تُحوّلها إلى جمرٍ تحت الرماد. تحوّلت المدينةُ إلى مسرحٍ للمأساة: دباباتٌ تدوس أجساداً لم تكتمل، ورصاصٌ يُطلق على من حملوا كتباً بدلَ الأسلحة. الجنرال أوفقير، الذي أدار عمليات القمع من مروحيته، كان يُشبه طائرَ جارحاً ينقضُّ على فرائسَ أعزل، وكأنه ينسى أن أولئك الأطفال هم من يجب أن يحموا البلادَ مستقبلاً، لا أن يُبادوا.
الأكثر إيلاماً هو تحوّل الاحتجاج من مطلبٍ تعليمي إلى صرخةٍ شاملة ضد القمع والفقر. فالشعب الذي خرج لدعم التلاميذ لم يكن يناضل فقط من أجل حقوقهم، بل كان يفضحُ تراكمَ جراحٍ تاريخية: استعماراً داخلياً جديداً يرتدي عباءةَ الاستقلال. المطالبُ الاقتصاديةُ التي رُفعت لاحقاً كانت تعني ببساطة: "لا نريد حريةً منقوصةً تُبادل القيودَ الأجنبية بقيودٍ وطنية".
لكن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهذه قاعدةٌ لا تُناقش. فما حدث في 23 مارس لم يُحَوَّل إلى فصلٍ في مناهج التعليم، بل بقي ذكرى مشوَّهةً تُروى همساً. النظامُ نجح في قمع الجسد، لكنه فشل في قتل الروح. فالأطفالُ الذين نزلوا إلى الشارع ذلك اليوم لم يعودوا أطفالاً، بل تحوّلوا إلى رمزٍ للانتفاضة التي تثبت أن الظلمَ مهما عَظُم، فإن شرعيته تتهاوى عند أول مواجهة مع الإرادة الجماعية.
اليوم، بعد عقود، لا تزال الأسئلةُ نفسها تُطرَح: هل تغيّرت آلياتُ القمع؟ أم أن السلطةَ فقط أصبحت أكثرَ دهاءً في تزيين وجهها؟ عندما نرى شباباً يخرجون مطالبين بالحق في التعليم أو العمل، نتذكّر أن التاريخ لا يكرر نفسه حرفياً، لكنه يُعيد إنتاجَ نفس التناقضات. الفرق الوحيد أن الرصاصَ الآن قد يكون رمزياً: فقرٌ ممنهج، بطالةٌ مقنَّعة، أو خطابٌ إعلامي يُجرمُ الحلمَ قبل أن يولد.
في النهاية، تبقى ذكرى 23 مارس مرآةً نرى فيها ثمنَ الصمت. فالشهداءُ الذين سقطوا لم يكونوا مجرد أرقام، بل كانوا رسالةً مفادها أن الحقوقَ لا تُوهب، بل تُنتزع. ربما لو تعلمت السلطةُ من التاريخ، لاستوعبت أن قمعَ الشباب ليس حلاً، بل تأجيلٌ لانفجارٍ أكبر. لكن يبدو أن بعض الدروس تحتاج إلى دماءٍ جديدة كي تُفهم.
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |
إشترك في تقييم هذاالموضوع تنويه ! نتيجة التصويت غير دقيقة وتعبر عن رأى المشاركين فيه |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
جيد جدا
![]() |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النتيجة : 100% | شارك في التصويت : 1 |