-السلطة الرابعة في خطر: حين يتحوّل التنظيم الذاتي إلى فخّ للإسكات-

الشهبي أحمد
2025 / 3 / 16

في عالم الصحافة، حيث يُفترض أن تكون الكلمة أقوى من السيف، يأتي الهجوم الأخير على الصحافي حميد المهداوي ليكشف عن أزمة عميقة تتخلل المهنة. عندما يتحوّل التنظيم الذاتي من وسيلة لحماية الصحافيين إلى أداة لفرض الرقابة الداخلية، فإن الصحافة نفسها تجد نفسها في موقف حرج. من خلال الهجوم الذي شنه يونس مجاهد ضد المهداوي، يتجسد التوتر بين مبدأ حرية التعبير وواقع التنظيمات الصحافية التي قد تصبح وسيلة لإسكات الأصوات المخالفة. هذا الصراع لا يمثل فقط خلافًا بين صحافيين، بل هو بمثابة انعكاس لحالة الصحافة في عصرنا، حيث تتقلص مساحة النقد المستقل ويُحاصر الصحافيون الذين يجرؤون على تحدي السرديات السائدة.

ففي خضم التحولات الجذرية التي تطال المشهد الإعلامي، تطفو على السطح إشكالية جوهرية: كيف يمكن للصحافة أن تظل حصناً لحرية الرأي والتعبير دون أن تنقلب أدواتها الداخلية إلى وسائل لإسكات الأصوات المختلف عليها؟ الجواب لا يكمن في القوانين أو الشعارات البرّاقة، بل في قدرة الصحافيين أنفسهم على تمييز الخط الفاصل بين النقد البنّاء الذي يهدف إلى تطوير المهنة، والصراعات الشخصية التي تحوّل التنظيم الذاتي من آلية حماية إلى أداة قمع.

لطالما اعتُبر التنظيم الذاتي ضمانة لاستقلالية الصحافة، لكنه يتحول أحياناً إلى سيف ذي حدين. فمن ناحية، يُفترض أن يعكس إرادة جماعية لتحسين الأداء المهني، ومن ناحية أخرى، قد يصبح غطاءً لمصالح ضيقة تفرض رقابة خفية تحت ذرائع "الأخلاق" أو "المهنية". هنا تظهر مفارقة مؤسفة: المؤسسات التي أنشئت لتحمي حرية الصحافيين تتحول إلى سجّان لهم عندما تُختزل معاييرها في قوالب جاهزة لتهميش الآراء المغايرة. وكما لاحظ "بيير بورديو" في تحليله لـ"العنف الرمزي"، فإن اللغة والمصطلحات المهنية تُستعمل غالبًا كأدوات لإقصاء الآخرين بدلًا عن كشف الحقائق، مما يحوّل الصحافة إلى "حقل قوة" تُدار معاركه بالسلطة لا بالحجج. حين يُطرد صحافي من نقابته أو تُسحب بطاقته المهنية ليس بسبب انتهاكه ميثاق الشرف، بل لأن مقاله ناقداً للسلطة أو لمجموعة نافذة داخل المهنة نفسها، فإن ذلك يشي بانحراف التنظيم الذاتي عن هدفه الأصلي.

هذا الانزلاق لا يهدد مصداقية المهنة فحسب، بل ينسف دورها كسلطة رابعة. فكما أشار "إميل دوركايم" في نظريته عن التضامن العضوي، تحتاج المجتمعات الحديثة إلى مؤسساتٍ تحفظ توازنها عبر ضمان تعددية الأصوات، لا عبر قمعها. لكن حين تتحول هذه المؤسسات إلى كيانات محافظة، كما حذّر دوركايم، فإنها تفقد قدرتها على تعزيز التماسك الاجتماعي وتصبح أداةً للهيمنة. وهذا ما ينطبق على بعض التنظيمات الصحافية التي تكرّس التبعية بدلًا عن مواجهتها.

التحدي الأكبر اليوم لا يأتي من خارج المهنة فقط، بل من داخلها. فالصراع بين من يرون الصحافة مرآةً للسلطة القائمة ومن يعتبرونها رقيباً عليها لم يعد مجرد جدل نظري، بل تحوّل إلى معارك يومية تحسم مصير المصداقية المتبقية. هنا نستعيد مقولة "يورغن هابرماس" عن "الفضاء العام" الذي يجب أن يكون ساحةً حرةً للحوار العقلاني، حيث تُناقش الأفكار بقوة الحجة لا بقوة النفوذ. لكن حين تتحول النقابات الصحافية إلى ساحة لتصفية الحسابات، فإنها تخون هذه الفكرة وتُفرغ الفضاء العام من مضمونه الديمقراطي.

لا ينفي هذا الحاجة الملحّة لضوابط تحمي المهنة من الفوضى أو الاستغلال، لكن الفرق جوهري بين تنظيم ينشأ من حوار داخلي حرّ يهدف إلى صون المبادئ، وآخر يُفرض من فوق لتحقيق هيمنة فئة على أخرى. كما ذكّر "رايت ميلز" في تحليله لـ"النخبة السلطوية"، فإن غياب صحافة مستقلة يُمكّن النخب من التحكم في الرواية العامة، مما يحوّل الإعلام إلى أداة لتكريس الوضع القائم بدلًا عن مساءلته. الصحافة هنا لا تخون جمهورها فحسب، بل تخون نفسها عندما تتنازل عن دورها النقدي تحت وطأة الخوف من "الاستبعاد" أو الوصاية الذاتية.

في هذا السياق، يصبح الدفاع عن حرية التعبير مهمة شاقة تتطلب أكثر من البيانات الرنانة. إنها تستلزم مراجعة دائمة للعلاقات الداخلية داخل الوسط الصحافي، ورفضاً صريحاً لثقافة الإقصاء التي تتلبّس بلغة التنظيم والتقييم. ليست الاستقلالية مجرد موقف من السلطة السياسية، بل هي أيضاً القدرة على مواجهة التكتلات المهنية التي تسعى لاحتكار الحق في تعريف "الصحافي الحقيقي". فحين يُقصى الزملاء لأنهم يطرحون أسئلة مزعجة، أو لأنهم يتحدّون السرديات المهيمنة، فإننا نكرّس نظاماً صحافياً أشبه بغرفة صدى، حيث تذوب الحقيقة في بحر من الخطابات المتشابهة.

الخلاصة المؤلمة هي أن انهيار الصحافة لن يأتي بالضرورة من الرقابة المباشرة، بل من تحوّلها التدريجي إلى مؤسسة تدير نفسها بقواعد معكوسة: تحمي الامتيازات بدل المبادئ، وتُسكت المختلفين باسم "التماسك المهني". إن تجديد شرعية الصحافة يبدأ من الداخل، بإعادة الاعتبار لفكرة أن النقد الذاتي المسؤول هو الذي يركز على جودة العمل لا على هوية العامل، وأن التنظيم الحقيقي هو ذلك الذي يحرّر الأصوات بدل أن يقيدها. فقط عندها يمكن للصحافة أن تبقى سلطةً رابعة، لا أداةً رابعةً للسلطة.



#الصحافة_في_خطر #السلطة_الرابعة_تحت_الهجوم #التنظيم_الذاتي_أداة_للإسكات #حرية_الرأي #حميد_المهداوي

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي