من أسقط الأسد؟ أو سقوط وهم القوة وصمود هم المصالح

إبراهيم اليوسف
2025 / 3 / 4

لم يكن سقوط الأسد لحظةً محدَّدةً بحدثٍ واحد، بل كان عمليةً متدرجة، بدأت منذ اللحظة التي ظن فيها- عبر يقينية وراثية- أن الاستبداد قدرٌ محتوم، وانتهت حين تحوّل من "حاكم" إلى مجرد "ورقة تفاوض". فالأسد لم يعد يحكم، بل تحكمه التوازنات، وحين يسقط الجدار الأخير الذي يسنده، سينهار فوق رأسه. ومن هنا، فإنه لم يسقط الأسد في أواخر سنة ٢٠٢٤، بل سقط فعليًا، لآخر مرة، عندما خرج أطفال درعا عام ٢٠١١ ليكسروا جدار الخوف، بعد أن خرج شباب الكرد قبل ذلك، في انتفاضة آذار 2004
تلك العبارات التي خطّها أطفال درعا على الجدران كانت كفيلة بهدم أسطورة "هيبة النظام". كان الرد الدموي على الأطفال إعلانًا لبدء نهايته، لكنه لم يفهم الرسالة. قبل ذلك، كان الكرد في قامشلو قد سبقوا جميع السوريين عام ٢٠٠٤ عندما كسروا حاجز الرعب و الصمت، وأظهروا أن النظام ليس إلا صنمًا من رمال!؟
حين خرج المتظاهرون في شوارع سوريا من عين ديوار حتى درعا، على اختلاف وتدرج الظهور العلني لكل منهم على روزنامة الثورة، هاتفين غير هائبين"الشعب يريد إسقاط النظام"، كان ذلك الإعلان الشعبي الأول لسقوطه. لم يكن الأمر مجرد شعار، بل كانت هناك إرادةً جامعة، تحوّلت إلى واقع سياسي وعسكري.
ولقد رأينا أنه مع بدء الثورة، انهار الأسد نفسيًا وسياسيًا، لكنه لم يسقط وحده على الأرض، بل من أنهضه- صورياً- من قوى أكبر، جعلت من سقوطه أمرًا مؤجلًا، ريثما تحين اللحظة المناسبة.
ورث بشار الأسد عنجهيةً فارغةً عن أبيه، لكنه لم يرث مهاراته في المراوغة، ولا قدرته على استخدام التناقضات لصالحه. كان حافظ الأسد يعرف كيف يكذب على الشرق والغرب في آنٍ واحد، وكيف يخدع العالم تحت شعارات كبرى، بينما كان يخدم إسرائيل التي يدعي معاداتها، بصمت. ولم يكن ليستمر لولا الحصانة الدولية التي تمتع بها، والتوازنات التي فرضها في المنطقة. أجل، كان الأسد الأب يجيد استخدام القمع والخداع كأدواتٍ للبقاء، لكن ابنه جاء ليكرر وصفةً ممجوجةً، ممسوحة الحبر، عبر ببغائيةً فارغةً، جعلته يسقط منذ اللحظة الأولى. لم يدرك أن أدوات والده لم تعد صالحةً لعالمٍ جديد، وأنه لم يكن إلا نسخةً باهتةً من طاغيةٍ أكثر دهاءً منه.
وحقيقة، لم يُبقِ الأسد في الحكم ذكاؤه، ولا قوته، ولا إرث أبيه، بل أبقته معادلاتُ القوى الكبرى والمصالح المتشابكة، لاسيما الموروثة منها. وقف معه الإيرانيون، ليس حبًا به، بل حفاظًا على مشروعهم التوسعي. حزب الله قاتل إلى جانبه، لا لأنه مقتنعٌ به، بل لأن سقوطه كان يعني انهيار منظومتهم في لبنان. الروس أنقذوه ليس حبًا به، بل ليعيدوا بناء أمجادهم على أنقاض سوريا. أما إسرائيل، فكانت ترى فيه أهون الشرور، إذ لم يكن هناك بديلٌ مضمونٌ لمصالحها.
أما أوباما، فكان يتحدث عن "الخطوط الحمراء"، لكنه لم يرسم إلا مساحاتٍ رمادية أبقت النظام متماسكًا. تركيا، التي قال رئيسها إن "حماة لن تتكرَّر"، استغلت الحرب، فنهبت المعامل، واستفادت من الفوضى، وعندما احتاجت إلى ورقة تلعب بها، كانت سوريا جاهزةً لتكون ساحةً لمساوماتها. لقد كان سقوط الأسد محتومًا، لكن من أرادوا إسقاطه لم يمتلكوا قرارهم، ومن امتلكوا القرار لم يكونوا يريدون سقوطه بعد. بعد غزة، وبعد مقتل قاسم سليماني، وبعد تصفية قادة فلسطينيين في إيران، بدأت الصورة تتغير. لاسيما بعد مقتل حسن نصر الله- إن صحّت التقارير- في الطابق ١٤ تحت الأرض، ومقتل من تولوا القيادة بعده، كانا إشارات إلى أن اللعبة تقترب من نهايتها، ولكن وفق اتفاقاتٍ دوليةٍ لا وفق ثورةٍ شعبيةٍ.
من هنا، فإنه لم يكن الأسد يومًا سيدَ قراره، منذ أن أُتي به، مغمض العينين- وهو طبيب العيون المزيف- لكنه لم يكن أضعف مما هو عليه اليوم. انشغال بوتين بحربه في أوكرانيا جعله عاجزًا عن دعم الأسد كما في السابق. إيران، التي نزفت في معاركها الإقليمية، بدأت تبحث عن مخرجٍ يحفظ رأسها. تركيا، التي كانت تلعب دور "الجوكر"، وجدت اللحظة المناسبة لتظهر بمظهر من يُسقط الأسد، فتقدمت عند الساعة الصفر، مستخدمةً أدواتها، وحركت بيادقها.
لقد قدّمت تركيا نفسها كـ "الوكيل الحصري" وراعية مخططات الإطاحة بالأسد، لكن الحقيقة أن الثورة السورية لم تفشل إلا عندما تحوّلت إلى رهينةٍ لقطر وتركيا، وبدل أن تكون معركة حرية، أصبحت صراع نفوذ.
الأسد سقط منذ اليوم الأول للثورة، لكنه بقي كدميةٍ معلّقةٍ بخيوط المصالح الدولية، ليستمر حوالي عقد ونصف بعد ذلك بسندات كفالة دولية. إن من أسقطه فعليًا، في سقوطه الأخير، لم يكن المتظاهرون وحدهم، ولا المعارضة، بل سقوط مشروعيته داخليًا، وعجز داعميه خارجيًا. إذ كان معروفاً أنه عندما يحين الوقت، فلن يكون سقوطه إلا خطوةً أخيرةً في مسرحيةٍ كُتبت فصولها منذ سنوات.

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي