ماكس فيبير والعقلنة المشوهة

سعيد الوجاني
2025 / 2 / 21

5556
Max Feber et la pseudo rationalisation
يرجع العديد من المفكرين نشوء المجتمع الحديث ، الى التبلور التدريجي لعملية يدعونها بعملية العقلنة La rationalisation . ويعود الفضل على وجه الخصوص ، في تطوير هذه الفكرة المركزية ، الى عالم السوسيولوجيا الألماني MAX Feber .
يميز Feber بين عدة أنماط من السلوك الفردي :
1 ) السلوك التقليدي المرتبط بالأعراف والتقاليد والتراث ، وهو نمط السلوك الشائع في الحياة اليومية لمعظم الجماعات 2 ) السلوك الوجداني الذي تقوده الاهواء والانفعالات .
3 ) السلوك العقلاني من حيث القيمة ، وهو نمط السلوك الذي لا تقوده وتوجهه الدوافع والغرائز ، بل توجهه القيم العلمية والأخلاقية والدينية والجمالية ، التي تجعل الافراد ينذرون حياتهم من اجل تحقيق قيمة من القيم ، وترسيخها واشاعتها ، كمنافحة الارستقراطي عن شرفه ، والفنان عن مذهبه الفني ، والمناضل عن القيم الدينية او السياسية التي يؤمن بها .
4 ) الاّ ان السلوك العقلاني الحق ، هو السلوك العقلاني وفق غاية من الغايات العملية . وهذا السلوك يقتضي الملائمة القصوى بين الغايات والوسائل . وهذا الضرب من العقلانية يُدْعى بالعقلانية الأداتية الموجهة نحو تحقيق غايات نفعية ، مع اصطناع كل الوسائل الكفيلة للوصول الى هذه الغايات . والمثال النموذجي للعقلانية الأداتية هو سلوك صاحب المقاولة او المشروع الرأسمالي الذي يتوخى تحقيق اكبر قدر من الربح ، وكذا سلوك المخطط الاستراتيجي للضابط العسكري ، الذي ينظم جيشه بهدف تحقيق النصر في المعركة . ان عملية العقلنة بهذا المعنى تعني التنظيم ، والحساب ، والنجاعة او الفعالية .
الاّ ان عملية العقلنة التي رافقت نشأة المجتمع الحديث ، بل تولد عنها النظام الاجتماعي الحديث ، هي عملية اجتماعية عامة ، تقوم على تنظيم مختلف العمليات الاجتماعية تنظيما حسابيا دقيقا ، بهدف تحقيق نماذج ملموسة وناجعة . وقد استندت هذه العملية الى فكرة فلسفية مفادها ان العقل هو الهيأة التي يتعين ان توجه كافة العمليات الاجتماعية ، وهذه الاخيرة تجد نفسها مضطرة للتخلي عن سيطرة التقليد والتراث وقيم الماضي ، لتسلك وفق منطق الفعالية والحساب والمردودية . فكأن هذه العمليات الاجتماعية المختلفة الاقتصادية والثقافية مدفوعة حتما نحو الاستقلال الذاتي ، بهدف الخضوع فقط لمنطق داخلي ، قوامه النظام والحساب والفعالية . فمثلا لكي تنخرط المنشأة الرأسمالية في سياق تسيير وتدبير منهجيين لنشاطاتها ، فان عليها ان تنفصل كليا عن الخضوع للمجموعة العائلية .
انّ عملية العقلنة ترتبط اذن لا فقط بالحساب والصياغة الصورية والفعالية ، بل أيضا بنزع الطابع الشخصي عن العلاقات الاجتماعية ، أي إعطائها طابعا عما يعبر عنه بصيغ قانونية ، ومن ثمة التوازن الضروري بين تقدم العقلنة وتقدم التشريع والقوانين ، مع إضفاء طابع شمولي غير شخصي على هذه الأخيرة .
وبعبارة أخرى ، فإن العقلنة تعني تنظيم كافة مستويات الحياة الاجتماعية تنظيما تحكمه قوانين لا شخصية . تنظيما يكون فيه كافة الافراد متساوين من حيث المبدأ في الخضوع لهذه القوانين ذات البعد الصوري . وتشكل البيروقراطية في هذا المنظور ، الفئة التي يوكل اليها امر تدبير وتسيير هذه العمليات المختلفة .
تفترض العقلنة اذن حداً ادنى من العقلانية والصورية والمساواة امام القانون ، والتمييز بين الخصوصي والعمومي . لكن اذا كانت هذه العملية هي الصيغة السائدة في معظم مجتمعات الغرب ، فليس معنى ذلك انها الصيغة الوحيدة القائمة ، بل هي الصيغة المهيمنة ، ومن ثمة صرامة القوانين وقدسيتها .
اما في المجتمعات التي داهمتها الحداثة التقنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية بعنف ، ومن ضمنها المجتمعات العربية ، فقد حدث نوع من الامتزاج والاختلاط الشديدين بين المعايير التقليدية والمعايير العصرية ، مما أدى الى تكون مزيج خلاسي غريب .
فمثلا الوظائف العصرية تختلط فيها بشكل واضح العقلنة باللاّعقلنة . فسائق التاكسي الذي يتعدى ما يسجله العداد ، ويقلب العلاقة مع راكبه الى استجداء ونواح وبكائيات ، قد تقوده الى رواية قصته العائلية بكاملها ، نموذج واضح للخلط بين الاجر والاستجداء .
وموظف الدولة الذي يحول المصالح العمومية ، الى مصالح خصوصية ، أي الى ملكية شخصية يبيع خدماتها لقاء اجر إضافي ، يسمى قدحا رشوة مثال اخر على ذلك .
وقد أظهرت البيروقراطية العربية قدرة هائلة في تليين العقلنة وتكييفها ، بإعطائها مضمونا ملموسا عبر الزبونية والمحسوبية والرشوة والنهب . وفي احسن الأحوال يقدم لك البيروقراطي العربي خدماته " العمومية " مقابل خدمات أخرى اذا كنت " تمتلك " انت الآخر قطاعا اخرا من قطاعات الدولة او من القطاع الخاص .
وهكذا تصبح القوانين مساطر رخوة ، مطاطة ، تُقصّ وفق المقاس الشخصي ، كما تتحول الملكية العمومية الى ملكية خصوصية ، وتصبح الرشوة والنهب والزبونية ممارسات مشروعة .
كل هذه السلوكات يتحقق فيها عنصر واحد من عناصر العقلانية الاداتية ، هي المنفعة والفائدة . لكنها منفعة فردية تنتفي فيها معايير الشمولية والصورية والتخطيط الحسابي العقلاني . انها اذن " عقلانية " فردانية فوضوية ، وهذا ما يجعلها تحقق فوائد على المستوى الفردي ، لا على المستوى الجماعي والعمومي . انها تقدم الافراد ولا تقدم المجموعة .
ومن الأكيد ان هذا المزيج السلوكي ، هو تعبير عن صراع بين نمطين مختلفين . نمط حداثي ونمط تقليدي ، ولكنه صراع ينتج نموذجا ثالثا هجينا غير ذي شكل محدد ، ويسهم في احداث نوع من التباطؤ في تراكم العقلانية الصورية التي لا يمكن بدونها ، ان يتحقق تراكم تاريخي إيجابي .//+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//+++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+/++/+//+//++/++/+//++/+//+/+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+/++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/+//+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++/+//+//++/++/+//++/++/+//++//++/+//+//++/++/+//++/+//+/+//++/+//+//++/++/+//++/+/++
//++

حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجر
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امي