![]() |
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
![]() |
خيارات وادوات |
داود السلمان
2024 / 6 / 6
ماذا يعني أن تكون مختلفا؟، بالفن أو بالأدب، أو حتى في فنون الإبداع الأخرى، كالفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع، وما شاكل ذلك؛ وأحيانا يكون الاختلاف بالمظهر والملبس الخارجي. وببساطة، المختلف: هو الذي لا يشابه طرحه - في الخوض بتلك السّجالات الإبداعية والكلامية الآخرين – بمعنى أكثر، هو إنّ ابداعاته تخرج مغايرة، تماما، لما ينتجه الغير، أي فيه لمسة وميزة في الطرح، وصورة تجسّم ما يكمن في ذهنه إبداعا محضا، خالٍ من تعابير أقرانه، فيمثل نفسه بحيث إذا دققت البصر وامعنت النظر، في جُل ما كتب أو رسم، أو شيد من بنيان ذهني فكري، ستجده يشبه بعضه البعض، ومنه ستجده مختلفا حقا، ومنه أيضا ستدرك، كذلك، أن اعماله مميّزة لا تنتمي إلّا إليه. عندها ستلمس صيغة عمله الذي تطلع عليه لأول مرة، إنّه يعود إلى ذلك الشخص المبدع بعينه، بما لا يتسرب الشك إلى قلبك، وتدور حوله الريبة.
والحال، أن ما لمسته أنا في نصوص فلونا عبد الوهاب، لا سيما في مجموعتها الأخيرة "عمى مؤقت" الصادر عن "دار السرد" في بغداد هذا العام، أعني: 2024؛ ما لمسته أنّه إبداع مختلف، وإن كنت لأول مرة اقرأ للكاتبة، إذ لم أطلع على بقية أعمالها الأخرى؛ وإنما حين أقول بأنها مختلفة في الطرح، أعي بذلك، اختلافها عن طرح الآخرين، كون الساحة الثقافية الآن تغصُّ بالغث والسمين، من شتى الأعمال الادبية والفنية وغيرها من الأطر والأفكار الأخرى. والمبدع الحقيقي هو من يثبت وجوده العيني، وبأنّه من صنف الذين قلنا عنهم: مبدعون، أولا: لكونهم مختلفون في الطرح، وقدموا كل ما هو جديد، وجدير بالاهتمام، في ذات الوقت؛ وثانيا: أثبت صورته المشرقة، التي طالما قدمَّ من ابداع سابق كان فيه أهلا لذلك.
وثمّة ميزة تميّز الكاتبة عبد الوهاب، فهي تجيد اللعب في تعاطي المفردات، وتحريك الجُمل حيثما تُريد، لرسم الصورة الشعرية بكثافة، وايقاع فني عالٍ؛ والسبب باعتقادي أنها تمتلك خزين معرفي؛ تسنى لها ذلك من تذويب المفردة ومدها طولا، بحث استطاعت أن ترسم الحرف بعناية فائقة، تنساب من خلالها معاني غاية في الجمال، ففي نص بعنوان "وقت العمل" تقول عبد الوهاب:
"أترك لي بقايا أنفاسك اقتاتها
إلى حين عودتك من العمل
وقليلا من دفء عناق الليلة الماضية
وسحابة عطرك دعها معلقة فوق السرير.
أصنع منها خلخالا..
ضع شفتيك حول فنجاني..
لا تجردني قميصك،
دع النور يغفو
والستائر تعانق النوافذ
واحنو على الياسمينة العطشى
والقطة الجائعة
ولا تفتح لساعي البريد".
ونستطيع أن نلتمس الصّور الفنية، في نصوص أخرى للكاتبة، فيها أبعاد غارقة في الخيال الشعري الذي يصاحب الشجن الأخاذ، ومنه يراد المشاعر الانسانية المتدفقة للخليل (= المحب) المرتقب، الذي رسمت ملامحه الكاتبة بعمق، وراحت تناجي طيفه بحنان الملهوف. وذلك تحت نص عنونته بـ "سطوة".
"ولي في سطوة علنيه حياة ثانية،
كأنني حُلقت له،
وتفاصيل شتى لا تكتمل دونه..
بارد،
هادئ،
مثل ساحة حرب،
لم يترك فيها الموت أنفاسًا.
دافئ،
ملاذ،
مثل حضن أمي".
على أن الصورة الفنية عند الكاتبة لن تقف عند هذا الحد فحسب، بل ظلت تتخلل بعضم النصوص الأخرى، وبذات الأسلوب؛ والخيال الخصب، فالعاطفية الجياشة، والاحساس الذي تملكته الشاعرة شاهق، وتفوح بين طياته اختزال لمفاهيم عاطفية باذخة.
وبحسب علماء النفس، ومنهم على سبيل المثال كارل يوغل، فأنّ المرأة تكون أكثر عاطفية من الرجل، لذلك نجدها تحنو على وليدها ما يعجز الرجل عن الوصول إلى كنهه، وربما يعود ذلك إلى تركيبة المرأة البيولوجية، أو لأنَّ الطابع الأمومي هو من يحرّك المشاعر المتدفقة فيها؛ لهذا فالمرأة حين تحب أو تعشق، يصل فيها الهيام إلى ما فوق المعقول، أو مبدأ اللذة، بتعبير فرويد. كذلك فهي تبدع في القضايا العاطفية، فتكون شديدة الاحساس، دقيقة التعبير، تصل إلى أماكن الاحساس فتمسكها من تلابيبها، لتصل إلى الأعماق.
وفي نص آخر تحت عنوان "صمت" تقول مبدعتنا:
"لا تكن مثل تمثال..
عهدي بك بركان
لا يعفو ولا يرضى بالجزية..
الروح،
الجسد،
حتى الأحلام لا يعفو عنها لو خانت..
لا تُحجب وجهك عني
علمني أبجدية الدستور،
فأنا يا سيدي
لا أفقه سوى لغة شفاهك".
وفضلا عن التعابير الأخاذة، وتركيبة الصور بعضها ازاء البعض، فثمة تموسق داخل النصوص يحفّز العاطفة بالتدفق، والوثوب إلى مناطق بعيدة الغور، لملامسات الجسد وفهم ابعاده، الخافية عن العين المجردة، وهو تعبير لن يستطيع البوح به سوى الشاعر، وذلك بحكم اشتغاله على هذه المساحة المعينة، وهي المسموح بها، واحيانا الشاعر يُعبر تلك المساحات لا يخشى المخاطر، بهدف التعبير عن الشجن الكامن في دواخله.
وجملة القول، أنّ الشاعرة عبد الوهاب، تمتلك لغة شاعرية واسعة، وخيال شاسع متدفق، فضلا عن حوافز نفسية تروم التعبير عنها متى ما شعرت بمدٍّ شعري كتعبير يلوّح بالسمو، وخرق المسافات بلا قيود. إذ تقول في ومضة بعنوان: "طقوس":
"عطرُ
مدونة
طريق طويلة
وضجيج نفسي في صمت الكون،
هذا كلُّ ما أحتاج إليه
لكتابة قصيدة".
تعليقات
حول الموضوع
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي المركز وإنما تعبر عن رأي أصحابها |
|
هل ترغب بالتعليق على الموضوع ؟ |
إشترك في تقييم هذاالموضوع تنويه ! نتيجة التصويت غير دقيقة وتعبر عن رأى المشاركين فيه |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
![]() |
1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 |
جيد جدا
![]() |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
النتيجة : 100% | شارك في التصويت : 1 |