|
غلق | | مركز الدراسات والابحاث العلمانية في العالم العربي | |
|
خيارات وادوات |
قاسم حسين صالح
2011 / 6 / 21
علينا بدءا أن نميز بين ثلاثة مفاهيم تبدو لكثيرين متشابهة غير أنها مختلفة في التشخيص النفسي،هي: قوة الأنا ،ونرجسية الأنا ،وتضخّم الأنا. و(الأنا)،وبعضهم يساويه بـ(الذات)،هو المكوّن الرئيس في الشخصية الذي يتعامل مع متطلبات الواقع.. ثقافية كانت ام سياسية او اجتماعية او عاطفية...واذا اعتبرنا الشخصية (مؤسسة) فان الأنا هذا هو مديرها التنفيذي المسؤول عن اتخاذ القرارات. ولك ان تقول ان تباين الناس في تصرفاتهم يعود في أحد أسبابه الجوهرية الى تباينهم في طبيعة (الأنا)لديهم ..من حيث قوته او ضعفه أو حجمه ،وما اذا كان واقعيا في أهدافه وعقلانيا في اشباعه لحاجات صاحبه..العاطفية بشكل خاص ،او مثاليا يتسامى على الواقع بسلوك قريب من الكمال.
و (قوة الأنا) تعني ان صاحبه يمتلك شخصية عقلانية..يتعامل مع الناس والأحداث بواقعية مجردة،ويقيس الأمور والآخرين من حوله وفقا لأحجامها الحقيقة.فهو لا يعظّم شخصا و"ينفخ" فيه،ولا يبخس حق شخص آخر يحظى بامتياز مستحق..حتى لو كان منافسا له في مهنته او تخصصه. وهو يقيس نفسه ايضا بحجمها الحقيقي ،مقدّرا لأيجابيات يمتلكها فعلا (عقلية،ثقافية،علمية،فنية...) ومعترفا بسلبيات فيه (نقص معرفي..تقلّب مزاج..).وبهذا يتمتع صاحب قوة الأنا باحترامه لذاته واعتزازه الايجابي بنفسه ،ولا يضطر لاشعوره الشخصي الى استعمال آليات نفسية مشوّهة للواقع وبخاصة:الانكار والتبرير والأسقاط (ترحيل عيوب النفس على آخرين).
اما (تضخّم الأنا) فان صاحبه يعمد الى أن يبدو للآخرين بحجم أكبر من حجمه الحقيقي،لاسيما في قدرات معرفية يمتلكها فعلا. فاذا كان شاعرا مثلا فانه يعدّ ّنفسه "أشعر " من فلان وفلان ..مع أنه بمستواهما أو دون ذلك في مقاييس الابداع الشعري. وعلّته أنه تتحكم به حاجة قسرية هي تكبير حجمه وتصغير حجوم الآخرين العاملين معه بنفس مجال نشاطه الفكري والثقافي،ناجمة عن أنه يكون في الغالب من نوع الشخصية الاحتوائية التي من خصائصها السعي الى السيطرة على الآخرين واحتواء وجودهم المعنوي وأفكارهم سواء بالابهار أو بأساليب درامية التوائية أو " فذلكية". وبسبب هذه الحالة النفسية غير المستقرة فان اللاشعور الشخصي لدى المصاب بـ(تضخم الأنا) يعمد الى ممارسة الانكار والتبرير والاسقاط لخفض القلق لديه الناجم من رفضه الاعتراف بواقع حجمه الحقيقي وحجوم آخرين أكبر.
ان استمرار ممارسة (تضخم الأنا) تفضي في الغالب الى ( الأنا النرجسي) ..وهنا ندخل في اضطراب نفسي حقيقي يكون صاحبه استغلاليا في علاقاته الشخصية ،ولديه احساس الزهو بالذات ،والمبالغة في انجازاته،ويبدو للآخرين وكأنه كتب على جبهته ( انا مميز)..أي عليكم ان تفضلوني على أنفسكم وتمنحوني الحب والاعجاب والاعتبار متى اردتها.. دون مقابل.
هذا يعني أننا اذا وضعنا المفاهيم الثلاثة على خط مستقيم فان ( قوة الأنا) تكون في طرفه الايجابي ،و(تضخم الأنا) في الوسط و (نرجسية الأنا) في طرفه السلبي.أي أن الأولى حالة نفسية صحية والثانية "بين بين" والثالثة اضطراب أو مرض نفسي.
لقد عايشت مثقفين عراقيين كثر.ففي السبعينيات كنت مذيعا في اذاعة بغداد وعملت بقسم البرامج الثقافية الذي كان يترأسه الشاعر حسب الشيخ جعفر،ويعمل فيه الشاعر حسين مردان.وعملت صحفيا بمجلة الاذاعة والتلفزيون التي كان يترأسها الشاعر زهير الدجيلي ويعمل فيها مثقفون بارزون يترأسون الآن مؤسسات ثقافية واعلامية مثل :زهير الجزائري وفالح عبد الجبار ومحمد الجزائري وفاطمة محسن..وعملت ايضا في مجلة (الثقافة الجديدة)،وتدريسيا باكاديمية الفنون الجميلة .أقول هذا لأن بعض مثقفي الجيل الجديد سيقول عني ما لهذا الرجل والثقافة ،وليتبينوا أنني لا أتحدث من منطلق علم النفس فقط بل من خبرة عملية تزيد على ثلاثة عقود تعرفت فيها على مثقفين كبارا في الأدب والشعر والمسرح والسينما والموسيقى والفن التشكيلي والفنون الاذاعية.
ولقد وجدتهم يتوزعون على هذا الأصناف الثلاثة .فالراحل جعفر السعدي كان مثالا للمثقف المتمتع بـ(قوة الأنا)..ومثله ابراهيم جلال مع شيء لطيف من نرجسية مستحقة!.وعوني كرومي يدفعك تواضعه الى أن تزيد له من حجم (أناه)..وحسين مردان كافر بأناه وبالدنيا ايضا..وفائق حسن بقي حيا برغم انه تحول الى رماد ،وليلى العطار التي كنت التقيها بمكتبها في شارع حيفا لتحليل شخصيتها ولوحاتها كانت جميلة الشكل والفن والأنا مع نرجسية مستحقة ايضا..وصولا الى كامل شياع الذي تتجسد فيه (قوة أنا) ثقافية ..جميلة..كاخلاقه الراقية.
وطبيعي انني لا اتحدث عن مصابين بتضخم الأنا..رحلوا..لكنني اجد أن ( تضخم الأنا) أصبح ظاهرة شائعة بين المثقفين العراقيين بعد التغيير..بانت بوادرها لي في أول اجتماع عقده مثقفو العراق في قاعة الأدريسي بكلية الآداب بعد ثلاثة أسابيع من اطاحة النظام .ثم في المؤتمر الأول للمثقفين العراقيين الذي عقد أيام كان الأخ مفيد الجزائري وزيرا للثقافة وكنت عضوا في هيئته التحضيرية( وليت وزير الثقافة الحالي الدكتور والصديق سعدون الدليمي يعمل على عقد مؤتمر ثان يفعّل توصيات المؤتمر الأول..ويزيد).ووجدته (تضخم الأنا) قد تجسد بوضوح في المؤتمر التأسيسي للمجلس العراقي للثقافة الذي عقد في عمان – الأردن عام 2007 بجهود الشاعر ابراهيم الزبيدي،وضمّ نخبة كبيرة من مثقفي العراق في الداخل والخارج، وكان (تضخم الأنا ) السبب في انهياره. ثم لقاء للمثقفين بفندق منصور ميليا بدعوة من المستشار الاعلامي ياسين مجيد بهدف تأسيس مجلس أعلى للثقافة..وكنت حاضرا فيه ايضا بمهاتفة شخصية من جنابه كصديق اذ أنني أحمل شعارا هو الابتعاد عن الحكومة بمسافة انعدام الرؤية!.
ان مقالتنا هذه تتضمن افتراضات يمكن أن يردّ عليها بأنها غير مثبتة تجريبيا..وهذا صحيح .غير ان الفرضية تظل حكما قائما الى حين التحقق منها تجريبيا، فمن من المثقفين العراقيين يوافق على أن يكون ضمن العينة ليثبت صحة هذه الفرضية من عدمها؟..مع طلب مني بأسماء محددة أشك بأن أصحابها من صنف المصابين بـ(تضخّم الأنا)..لابطال يقيني بذلك!.